الخميس 25 أبريل 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: في ذكري نكبة فلسطين هل آن أوان طرح الحقائق ؟

نُشر هذا المقال في جريدة نهضة مصر بتاريخ الثلاثاء 16 مايو 2006

نشر
عبد الرحيم علي


 تمر اليوم الذكري الثمانية والخمسين لنكبة فلسطين المريرة، اليوم الذي انهزمت فيه سبعة جيوش عربية مجتمعة علي أيدي العصابات الصهيونية المنظمة، والسؤال الذي يجب طرحه بعد كل تلك السنوات، ما الذي يجعل هذا الكم من الجيوش ينهزم أمام تلك العصابات؟. لقد جاءت الوثائق الإسرائيلية التي تم الإفراج عنها مؤخرا ــ بمرور خمسين عاما ــ لتجيب لنا عن هذا السؤال وتكشف من خلال تلك الإجابة، عن حقيقة الأهداف العربية من وراء تلك الحرب. 


 لقد كشف الجيل الجديد من المؤرخين الإسرائيليين وفي مقدمتهم إيفي شلايم، في كتابه "الحائط الحديدي" عن الكذبة الكبري التي اطلقتها الأوساط الصهيونية منذ أكثر من نصف قرن، وقامت بترويجها أجهزة إعلام الأنظمة العربية، في محاولة منظمة ومفضوحة لطمس الحقائق المؤلمة، حول دور تلك الأنظمة وعدد من القوي السياسية الفلسطينية في ضياع فلسطين. 


 كانت الكذبة التي أطلقتها القوي الصهيونية تدور حول هدف العرب من حرب 1948. وهو السعي المتعمد الي تدمير الدولة اليهودية الوليدة، وإلقاء اليهود في البحر. 
 ولكن الوقائع ــ التي كشف عنها شلايم ورفاقه من واقع الوثائق الإسرائيلية والبريطانية ــ تؤكد عكس ذلك. 


 الجنرال جلوب: 
 لقد كانت تعليمات رئيس الوزراء البريطاني "مستر بيفن" لقائد الجيوش العربية آنذاك الجنرال جلوب واضحة "إن الشيء الوحيد المعقول والمقبول من قبل بريطانيا، ألا يتجاوز الفيلق العربي ما هو مخصص للفلسطينيين في قرار التقسيم، وأن يمنع الفيلق العربي غيره ــ من العرب ــ من اعتراض تنفيذ القرار بالنسبة للجزء المخصص للدولة اليهودية". 


 وبالفعل.. نجح الفيلق العربي طوال الحرب ، في الدفاع عن مواقعه في لاكرون ورام الله والقدس القديمة، ولكنه لم يحاول أبدا ــ رغم توافر الفرص ــ الاستيلاء علي أي أرض تابعة للدولة اليهودية في قرار التقسيم. 
 وترصد الوثائق الإسرائيلية ما هو أكثر إيلاما حول عدد من اللقاءات، تمت بين الملك عبد الله وجولدامائير، اتفقا فيها - قبل اندلاع المعارك - علي قبول الملك لقرار التقسيم، والمشاركة الرمزية في الحرب لمنع أي أحد من المساس بالحدود التي نص عليها القرار. 


 النقراشي باشا.. 
 ولم يكن الحال في الأردن أكثر قتامة من مصر؛ فقبل يومين من انتهاء الانتداب وتحت ضغوط شعبية هائلة، وقف النقراشي أمام مجلس النواب المصري ليدافع عن قرار الملك فاروق بدخول الجيش المصري إلي فلسطين، مؤكدا علي قدرة الجيش علي ردع العصابات الصهيونية، وموضحا أن الجيش يملك أسلحة وذخائر تكفي للقتال لمدة ثلاثة أشهر.. هذا في الوقت الذي أكد له فيه اللواء "أحمد المواوي" (القائد العام للقوات المصرية في فلسطين) عندما استدعاه النقراشي وحيدر باشا لسؤاله عن أحوال الجيش بأن الحالة سيئة للغاية، والوحدات غير مدربة، وليس لدي الجيش أية استعدادات لدخول حرب . ولكن النقراشي باشا طمأنه بالقول: إن الملك يعتقد أن الاشتباكات ستكون مجرد مظاهرة سياسية وليست عملا حربيا، مضيفا أن المسألة ستسوي سياسيا بشكل عاجل، وأن الأمم المتحدة ستتدخل لحسم الموقف. 


 وهذا هو السبب الرئيسي وراء التغير المفاجئ في موقف الملك فاروق من المعارضة في دخول الجيش المصري للحرب، ومساعدة الفلسطينيين بالمال والسلاح فقط إلي الموافقة علي فكرة التدخل؛ فقد تولدت لدي الملك قناعة، بأن الجزء الأكبر من واجبات القتال سوف يقع علي كاهل الجيش الأردني، بالإضافة إلي الوهم الذي تبادر لذهن الملك ووزير حربيته برغبة بريطانيا في تأديب اليهود قبل خروجها من فلسطين شريطة ألا يحدث أي تجاوز لقرار التقسيم؛ الأمر الذي سيسمح بعمل دعائي يخرج الملك من حرجه دون أية خسائر حقيقية. 


 هكذا أدار الملوك العرب الحرب مع إسرائيل، كل عرش له مصالحه وأهدافه التي تحركه، والتي اختفت جميعا خلف حجة تأمين فلسطين للفلسطينيين؛ ففي الوقت الذي راحت فيه الوكالة اليهودية تتحرك بحسم ــ منذ صدور قرار التقسيم ــ نحو إقامة دولة يهودية في فلسطين؛ فإن العرب لم يكن قد توصلوا إلي تصور واضح لما يمكن أن يطرأ خلال الأسابيع القادمة، معتمدين علي ما راحت تردده بعض الجهات الأمريكية ــ خاصة شركات البترول ــ من أن الموقف الأمريكي في طريقه للتغير؛ الأمر الذي سوف يؤدي إلي وضع فلسطين تحت وصاية دولية لعدة سنوات حتي تتاح للأطراف المعنية مراجعة الحقائق والمواقف جيدًا. 


تدريس الأكاذيب
 لذلك لم يكن غريبا ما حدث في الفترة من 15 مايو 1948 وحتي يناير 1949، عندما انصاعت جميع القوات العربية والإسرائيلية لقرار وقف إطلاق النار؛ عندما أصبحت إسرائيل تسيطر ليس فقط علي 55% من الأرض وفقا لقرار التقسيم، ولكن علي 78% من الأرض، زادت إلي 100% بعد يونيو 1967 ــ الذي شهد وقائع قريبة الشبه لما حدث في 1948ــ وما زلنا للأسف نكرر لتلاميذنا في كتب التاريخ أكاذيب كبيرة حول ما حدث دون أن نجرؤ ولو لمرة واحدة علي ذكر الحقيقة لعلنا نستطيع إعادة القراءة واستيعاب الدرس واستعادة الوعي الذي فُقد!! 


 وليت الأمر وقف عند هذا الحد، ولكن المصيبة الكبري بدأت عندما راحت مطالَبات الملوك والرؤساء العرب تخفض من سقفها عاما بعد عام. 
 فبعد رفض المفتي الحاج "أمين الحسيني" لقرار التقسيم الأول الذي أقرته لجنة "بيل" عام 1937 عقب اندلاع الثورة العربية، الذي قضي بدولة يهودية صغيرة علي مساحة خمسة آلاف كيلومتر مربع؛ ومرورًا برفض إقامة دولة فلسطينية علي كامل التراب الفلسطيني يعيش داخلها أقلية يهودية -طبقا للكتاب الأبيض عام 1939- تحت زعم أنه لا يجب أن يقيم الفلسطينيون دولتهم بقرار الإنجليز، وأنهم يجب أن يحاربوا في صفوف الألمان ضد الإنجليز ثم يقوموا بإخراج الجميع ــ يهودا وبريطانيين ــ معلنين قيام دولتهم الفلسطينية (تلك كانت رؤية الحاج أمين مفتي القدس الذي شرع في تنفيذها حينذاك)، ثم رفض قرار التقسيم الخاص بالأمم المتحدة عام 1947 الذي منحت فيه إسرائيل 55% من الأرض كان يسكنها آنذاك 400 ألف فلسطيني ونصف مليون يهودي وصولا لاضطرار العرب بعد الخامس من يونيو 1967 إلي قبول القرار "242" الذي يقضي بعودة الأراضي التي احتلت عام 1967 مقابل الاعتراف بدولة إسرائيل. وبعد أكثر من خمسة وثلاثين عاما، يتحدثون الآن عن دولة منزوعة السيادة علي 42% من الضفة و70% من القطاع، ويرجون من إسرائيل أن توافق علي إشراف عربي فلسطيني ديني علي الحرم القدسي. 


 هذا ما أوصلتنا إليه سياسات مرتبكة، ورؤي غائمة، وفُرقة لم تزل تفعل في الجسد العربي ما يفعله السرطان في جسد من يحمله. وإمعانا في غيوم الرؤية، وضبابية الموقف، نسد آذاننا عن السمع، وعيوننا عن النظر، وعقولنا عن الفهم والتدبر والتفكير ونهرب داخل الأغاني والشعارات.