السبت 20 أبريل 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: انتفاضة الصدر "تيار الصدر كفاح ضد صدام والاحتلال"

نُشر هذا المقال بملف الأهرام الاستراتيجي بتاريخ 6 ابريل 2004

نشر
عبد الرحيم علي

جاء بروز تيار "الصدر الثاني" مرة أخرى في العراق كحركة جماهيرية واسعة يقودها الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر استنادا على إرث تاريخي وكفاحي، بمثابة أحد أهم النتائج التي ترتبت على سقوط نظام صدام حسين قبل عام؛ حيث يعتبره العديد من المراقبين للشأن العراقي أحد أهم الأطراف المؤثرة في المعادلة العراقية الحالية..

فهذا التيار الذي بلغ ذروة صعوده عام 1999 كاد يختفي بعد اغتيال مؤسسه المرجع الشيعي الإمام محمد صادق الصدر على أيدي أجهزة النظام البعثي في فبراير من العام نفسه.

وفور زوال نظام صدام عاد تيار الصدر بقوة بزعامة مقتدى -نجل محمد صادق الصدر- ليقود الجماهير العراقية من السنة والشيعة كما فعل طوال أكثر من عشر سنوات؛ رافضا دعاوى التفرقة بين العراقيين، وداعيا في الوقت نفسه إلى التمسك بالخيارات الوطنية المستقلة، بعيدا عن المخططات التي تسعى أمريكا إلى تنفيذها في العراق عبر التعاون مع عدد من القيادات السابقة للمعارضة العراقية.

وفي أول ظهور لهذا التيار دعا زعماؤه إلى مسيرة كبرى في ذكرى أربعين الحسين عقب سقوط النظام البعثي في عام 2003 انطلقت من كربلاء مطالبة بتسليم السلطة للعراقيين. وقد استجاب لهذه الدعوة أكثر من مليوني مواطن عراقي، في أول مؤشر قوي على تنامي تيار الصدر.

بدايات التشكل

تعرضت المرجعيات الشيعية في العراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين إلى ضربات قوية من قبل النظام البعثي الحاكم؛ ففي الفترة ما بين عام 1968 (وصول حزب البعث العراقي إلى السلطة) وحتى عام 1970 (حيث توفي السيد الحكيم) تعرضت مرجعية السيد محسن الحكيم إلى إساءات عديدة وصلت إلى اتهام ولده السيد مهدي الحكيم بالتجسس لقوى أجنبية. وفي عام 1980 أُعدم المفكر الإسلامي والمرجع الديني السيد محمد باقر الصدر (المسمى بالصدر الأول) بتهمة تشكيل حزب إسلامي سري معارض (حزب الدعوة الإسلامية).

وفي عام 1991 تعرض السيد أبو القاسم الخوئي إلى ضغوط كبيرة بسبب دعمه للانتفاضة الشعبانية في مارس 1991. كما تعرض للسجن والتعذيب العديد من المراجع الكبار.

وعقب انتفاضة 1991 الشيعية في جنوب العراق ورث الصدر الثاني (محمد صادق الصدر) إرثا ثقيلا تمثل في: بلد محاصر اقتصاديا وسياسيا، وتحكمه سلطة تمارس سياسة البطش والقمع في أقسى صورها، وتفشي الفقر والجوع والمرض بين أفراد شعبه، وجماهير ما زالت تلملم جراحها بعد ما قدمته من تضحيات جسيمة أثناء وبعد انتفاضة عام 1991.

كل هذه المفردات مثلت وقتها كوابح في وجه أي تفكير في مشروع نهضوي سياسي اجتماعي، زاد على ذلك ضعف الإمكانيات الذاتية التي شكلت في حد ذاتها تحديا كبيرا أمام أي حركة تغييرية ممكنة.

هذا الإرث الثقيل بعناصره المتشابكة مثل التحدي الأكبر أمام الصدر الثاني لبناء مشروعه التأسيسي، لذا كان عليه أن يفكك عناصر الصراع ويقرأ الواقع قراءة خاصة، وهو ما اضطلع به الإمام الصدر بكفاءة عالية؛ حيث لخص قراءته للواقع العراقي في الآتي:

1- مجازر وحشية ينفذها النظام تجاه الشيعة دون أن تتمكن قوى المقاومة والمعارضة من إيقافها، ودون أن تبدي أية قوة إقليمية أو دولية استعدادها للتصدي لها.

2- وجود فراغ شبه كامل في ساحة قيادة المرجعية للأمة (باستثناء إعطاء الأجوبة الفقهية على المسائل العبادية الفردية).

3- اكتفاء المعارضة العراقية -بشكل عام- بالعمل المنظم السري في ظل ظروف صعبة، وإقدام بعض قواتها على القيام بعمليات مسلحة غير محكومة بخطة سياسية وذلك ضمن مرحلة (اضرب واهرب)، مما لا يتناسب مع قطاعات واسعة من العراقيين؛ لصعوبة شروطها.

4- عدم وضوح معالم خطة سياسية متكاملة تعتمدها القوى المعارضة في الخارج للإطاحة بنظام صدام.

وانتهى الإمام محمد صادق الصدر إلى نتيجة مؤداها أنه لا يمكن تحقيق تغيير حقيقي في أوضاع العراق دون مشاركة شعبية واسعة، ولا يمكن تحقيق هذه المشاركة دون أن تتطور حركة الجماهير ضمن أجواء عمل علنية وطبيعية.

ومن هنا بدأ الإمام الصدر في رسم معالم حركته الجديدة على محاور مثلت إشكاليات مهمة في مساره الفكري والسياسي والحركي.

 

 

الإشكالية الأولى العلاقة مع السلطة:

حيث مثلت (إشكالية الاعتزال والمواجهة) التي حكمت مسار العلاقة بين الحوزة العلمية والسلطة واحدة من الإشكاليات المهمة، ولكن الصدر الثاني انتهج طريقه الخاص في تحييد السلطة ريثما تكتمل ملامح مشروعه وتنضج خبرته؛ استعدادا للمواجهة التي لا بد منها في يوم ما.

ومع أن لهذا الموقف استحقاقاته، فإن الصدر لم يمنح السلطة ما تأمله منه، فعلاقته بالسلطة لم تكن علاقة تعاون بل علاقة تعامل مشروط، لا تختلف عن بعض حالات التعامل التي شهدها التاريخ الفقهي الشيعي من قبل بعض الفقهاء الشيعة، تماشيا مع المصلحة العليا التي يقدرها الفقيه على ضوء الواقع، والظرف الاجتماعي الذي يحكم مرحلته.

الثانية إشكالية العلاقة بين الفقيه والمكلف:

أراد الإمام الصدر تجاوز "جدلية الفقيه والمكلف؛ مَنْ يذهب إلى مَنْ؟" التي ترى أنه لا يجب على الفقيه أن يذهب إلى المكلف ويبلغه حكمه؛ بل يجب على المكلف نفسه أن يأتي إلى الفقيه ويسأله. انتقد الصدر هذه الظاهرة مؤكدا على أن هذه الظاهرة ترسخ المقاطعة والانفصال النفسي والاجتماعي بين المرجعية والجماهير، مؤكدا على أن "الحوزة الناطقة المجاهدة" (أي حوزته) ينبغي ألا تكف عن النشاط في مختلف الاتجاهات وبمختلف الأساليب. لقد دشن الصدر بنظرته تلك مرحلة جديدة في العلاقة بين المرجعية والجماهير، بدأت بنشر شعيرة صلاة الجمعة على نطاق واسع في كافة أنحاء العراق، واعتبارها وسيلة سياسية للالتقاء بالجماهير وتعبئتها سياسيا، حتى بلغ من يصلون خلف الإمام الصدر في مسجد الكوفة المليونين.

المواجهة

وعندما استطاع الإمام الصدر تحقيق أهدافه لهذه المرحلة، ووجد نفسه في النصف الثاني من عقد التسعينات من القرن الماضي يستند إلى قاعدة شعبية وقوية يحسب لها من السلطة ألف حساب بدأ التحرك بمنطلقات أخرى؛ حيث حرم على العلماء الأخذ بمفهوم "التقية" من منطلق الخوف على النفس، وصنف الصبر نوعين؛ الأول سلبي وهو الصبر على الظلم، والثاني إيجابي، وأسماه الصبر على مقارعة الظلم والظالمين، وطلب من أتباعه الأخذ بالنوع الثاني من الصبر.

ومن هذا المنطلق امتنع عن الدعاء لصدام، ومنع جميع وكلائه من الدعاء له، وكان هذا الموقف بالمنظار الصدامي هو أكبر تحد لصدام، فعين صدام مجموعة من أئمة المساجد لصلاة الجمعة، وأشاع بين الناس أن هؤلاء هم وكلاء السيد محمد صادق الصدر، فاضطر السيد الصدر للإعلان على الملأ وأثناء صلاة الجمعة بأن هؤلاء لا يمثلونه وليسوا بوكلائه، فقامت الجماهير بطردهم من المساجد بالقوة، ووضعوا مكانهم وكلاء السيد كأئمة لصلاة الجمعة.

وبلغت المواجهة ذروتها عندما طالب الإمام الصدر بشكل علني أثناء صلاة الجمعة الحكومة بالإفراج عن المعتقلين، ودعا المصلين للمطالبة -وبشكل جماعي- بالإفراج عنهم. فحاولت السلطة وبكل الوسائل إيقافه عن أداء صلاة الجمعة، فرفض الإذعان وتحداهم بلبس الكفن أثناء الصلاة موطنا نفسه على الشهادة.

وخاطب المقربين منه قائلا: "جهزوا أكفانكم؛ لم يبق لنا من الخيار سوى الاستشهاد".

وقبل ثلاثة أسابيع من استشهاده هدد الإمام الصدر بالدعوة إلى التحرك للإفراج عن المعتقلين خاصة من وكلائه، ولما وجدت السلطة هذا التحدي الصارخ من قبل الإمام الصدر والجماهير معا، اضطر صدام للاتصال مباشرة به وطلب منه الامتناع عن أداء صلاة الجمعة، فرفض الإمام أمر صدام، وتحدى سلطته ووضع دمه على كفه، فتم إطلاق النار عليه بعد أدائه لصلاة الجمعة وخروجه من مسجد الكوفة وسط احتجاج مئات الآلاف ممن كانوا يصلون معه، وقتل معه في ذلك اليوم من عام 1999 ولداه مصطفى ومؤمل، ونجا السيد مقتدى الصدر الذي يقود "تيار الصدر الثاني" الآن.

وقد تعرض تيار الصدر الثاني لاضطهادات عديدة عقب مقتل الإمام الصدر، إلا أنه ظل القوة الوحيدة القادرة على الفعل والصمود في الداخل العراقي طوال أكثر من 10 سنوات.

وما إن زال حكم صدام، حتى انطلق تيار الصدر ينتشر بقوة في أوساط الشيعة واتسمت مواقفه بأنها الأكثر "راديكالية" مقارنة بباقي المرجعيات الشيعية، وهو ما جعل الولايات المتحدة تستبعده من المعادلة السياسية الرسمية التي بدأت صياغتها في يوليو 2003 بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي. غير أن ذلك لم يؤثر في تنامي شعبيته، أو صعود نجمه.