الثلاثاء 05 نوفمبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

مصر و"الملف الفلسطيني" في عصر مبارك

نشر
عبد الرحيم علي


أسرار عمليات "الكر والفر" حماية للمصالح العليا للشعب الفلسطيني
الإستراتيجية المصرية ثابتة تجاه القضية الفلسطينية
رغم تغير أدوات الصراع
مصر تتعامل مع "فلسطين" بإعتبارها قضية أمن قومي
قوى إقليمية تستغل القضية الفلسطينية لمصالحها الذاتية
ومصر التي تدفع الثمن دائما
نصيحة عمر سليمان التى أغفلها قادة حماس: فرقوا بين موقفكم كحركة وموقفكم كحكومة منتخبة
المخابرات العامة المصرية تولت الملف بعد أن فقد الجميع الأمل في قيام الدولة الفلسطينية المستقلة
25 زيارة لرئيس جهاز المخابرات العامة، و150 لقاءً عقدهم الفريق الأمني من أجل لم شمل الأخوة الفرقاء

"يا عباس يا هنيه فين الوحدة الوطنية"، هتاف ردده آلاف من المتظاهرين الفلسطينيين، وهم يشعرون بالحسرة والألم ، حسرة على الزمن الذي ولى دون تحقيق تلك الوحدة ، وألم ينهش روحهم وهم يقفون مشدوهين أمام مشاهد استحواذ المستوطنين الإسرائيليين، على ما تبقى من أراضيهم في القدس والخليل ورام الله ، والعديد من المدن الفلسطينية الأخرى. سياسة "قضم الأراضي"، سياسة صهيونية ثابتة ، ظلت إسرائيل تمارسها طوال ستين عاما ، من قرار التقسيم 181 لسنة 1948 إلى القرار 242 لسنة 1967 ، الذي أشار الى ضرورة عودة الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب يونيو/حزيران، إضافة إلى عشرات القرارات الدولية، التي صدرت بشأن تجميد المستوطنات ، والوقوف في وجه تهويد القدس. ستون عاما قضتها القوى الفلسطينية مشدودة نحو الانقسام، بينما راحت المحاولات المصرية تتسارع يوما بعد يوم نحو لم الشمل وتحقيق وحدة الشعب الفلسطيني، تمهيدا لإقامة الدولة المستقلة، عبر إزالة آثار العدوان، وتحرير الأرض. 
تغيرت أدوات الصراع بينما ظلت الإستراتيجية المصرية ثابتة، إزالة آثار العدوان، دحر الاحتلال، إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس، عودة اللاجئين .
لكن السؤال، هل يمكن تحقيق تلك الإستراتيجية ، بدون وحدة فلسطينية ؟ بدون عنوان واضح ومحدد، راية جامعة، وقيادة مشتركة، وبرنامج شامل تتوحد خلفه كافة التيارات والأحزاب الفلسطينية، تتفاوض على ضوئه وتقاوم وفق أجندته ، وتحت قيادته الوطنية الموحدة .
كانت تلك هي الإستراتيجية التي تسعى إليها مصر دوما، لم تتغير يوما ، منذ أن ساهم الرئيس عبد الناصر في إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، حتى اعتمادها – فيما بعد- كممثل رسمي ووحيد للشعب الفسطيني، مرورا بمحاولات مصر المستميتة تدشين المقولة الشهيرة ( كل الدم الفلسطيني حرام )، في محاولة لقطع الطريق على الاقتتال الفلسطيني / الفلسطيني، وأنتهاءً بمحاولات الرئيس مبارك إجراء المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس في نهاية العام الماضي،.
مصر لا تبحث عن دور ابدا، من خلال علاقتها بالقضية الفلسطينية، فهي علاقة استراتيجية ، فلسطين – وفق تلك الإستراتيجية - جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي المصري، هكذا تقول المبادئ الأساسية للأمن القومي المصري، وهكذا يؤمن الرجال الذين عهد إليهم الرئيس مبارك ، منذ أكثر من عشر سنوات بالملف الفلسطيني.
البداية مع ضياع الأمل:
بدأت علاقة المخابرات العامة المصرية بالملف الفلسطيني، كملف شامل، منذ نهاية  عام 1998 تقريبا، عندما عهد الرئيس مبارك للوزير عمر سليمان رئيس الجهاز بهذا الملف وسط عاصفة من الأنواء تنذر بكارثة محدقة.
كان موعد إقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة -وفق اتفاقات أوسلو – قد حل ولم يتحقق شئ على الأرض، وكانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية على الأبواب، وكانت كل الدلائل تشير الى قرب حدوث انفجار كبير في الأراضي المحتلة.
في هذا التوقيت كان لابد من تدخل جراحي ماهر، لرجال يعرفون ما يفعلون، يتحلون بالصبر والحكمة، يملكون إرادة لا تلين. الهدف كان واضحا، ومحددا من قبل الرئيس مبارك، الحفاظ على استقلالية القرار الفلسطيني، وضع القضية الفلسطينية دائماً في دائرة الضوء، المساعدة في الانتقال الطبيعي من مرحلة شرعية الثورة الى مرحلة شرعية الدولة. 
كان اليمين الإسرائيلي في أوج قوته آنذاك، عندما بدأت نذر الانتفاضة الثانية ، تحركت مصر سريعاً وعقد الرئيس مبارك مؤتمرا في شرم الشيخ، أكتوبر 2000 
(عقب أسبوعين فقط من بدء الإنتفاضة)، حضره الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، كان هدف مصر واضحا، منع إستفراد إسرائيل بالفلسطينيين، واحتواء الموقف، تمهيدا لمرحلة من التهدئة المتبادلة، تهئ الأجواء لطرح مشروع سياسي كبير لإنهاء الصراع. لكن المزاج الإسرائيلي المائل بشدة نحو اليمين، ودخول القوى الإسلامية الفلسطينية الوليدة على خط الإنتفاضة، وعسكرة أنشطة الأخيرة، قلبت كل الموازين. 
خطط بديلة :
تبدلت الخطط المصرية على الفور، استجابة للانتفاضة، وكان القرار واضحا، تقديم كل الدعم للشعب الفلسطيني، والتأكيد على حق المقاومة، والبحث عن قواسم مشتركة، وقيادة موحدة للفصائل المشاركة في الانتفاضة، المساعدة في صياغة برنامج عمل ينقذ الموقف ويوجه الدفة نحو مكاسب سياسية. 
ومرة أخرى يحاول البعض إدخال العصا في العجلة المصرية في محاولة لإيقافها، دعما لقوى ومصالح إقليمية، وتلبية لارتباطات خارجية، وتنفيذا لبرامج لا تعبر عن المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، بقدر الانتصار لبرامج فئوية ضيقة، تتبع حركات المقاومة الإسلامية التي راحت تعلن عن نفسها عبر الانتفاضة، الأمر الذي أدى الى خروج الانتفاضة عن السيطرة الفلسطينية، وقيام أطراف إقليمية عديدة بإستثمارها لتحقيق مصالح حزبية، والنتيجة، لا أثر سياسي.
وإدراكاً من مصر لعمق الأزمة، كان لا بد من تحرك يعطي الأمل للشعب الفلسطيني، من هنا جاءت زيارات الوزير عمر سليمان مدير المخابرات العامة المصرية، التي قاربت 25 زيارة منذ عام 2000 وحتى الآن .
كان هناك هدفان حددهما الرئيس مبارك للوزير عمر سليمان من وراء تلك الزيارات، 
الأول: دفع اسرائيل للقبول بالتهدئة، والثاني: طرح مشروع سياسي يعطي الأمل للشعب الفلسطيني.
ومن ثم تم تشكيل اللجان الفلسطينية المشتركة، التي استهدفت وضع صيغة للتهدئة ، يتم من خلالها بلورة مشروع سياسي.
وبالفعل بدأ يتبلور في بداية يناير من عام 2001 ، من خلال مفاوضات طابا التي رعتها القيادة المصرية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مشروع سياسي شامل، يدرك الفلسطينيون قبل غيرهم، انه كان بمثابة معاهدة سلام شاملة بين الطرفين .
إجهاض مبكر :
جاء المشروع في جزء كبير منه تأسيسا على مبادرة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. ولأول مرة -في مشروع تفاهم إسرائيلي فلسطيني - يتم مناقشة كل القضايا الجوهرية والوصول فيها إلى حلول عملية تشمل جميع القضايا بلا استثناء، الحدود، والمياه، والأمن، والقدس، واللاجئين.
ومرة أخرى يتسبب المزاج اليميني للكنيست الإسرائيلي في إجهاض المشروع ، بعد عرضه من قبل "ايهود باراك" رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك .
لم تيأس مصر واستمرت تحركاتها من خلال الوزير عمر سليمان مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، برئاسة خلفه، شارون، لتحقيق نفس الاهداف التي تم التوصل إليها في مفاوضات طابا بين الجانبين، حيث تم دعوة شارون للقاء الرئيس مبارك في القاهرة، ولكن متغيرا جديدا طرأ – في تلك الفترة – على الساحة الداخلية الفلسطينية، قلب كل الموازين.
صراع دموي :
شهدت نهاية عام 2002 ، وبداية عام 2003 ، بوادر صراع دموي بين حركتي فتح وحماس، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي دفع بالفريق المصري المكلف بإدارة الملف، إلى تغيير كافة تكتيكاته، والانتقال من هدف إجراء محادثات مباشرة مع شارون، وإستغلال علاقة مصر بالولايات المتحدة للضغط علي رئيس الوزراء الإسرائيلي، لتنفيذ ما تم التوصل إليه مع سلفه إيهود باراك، الى تكليف وفد امني مصري بالذهاب إلى الأراضي الفلسطينية لإجراء وساطة بين الفصائل الفلسطينية وبخاصة حركتي فتح وحماس، تحفظ الدم الفلسطيني.
وعبر ست جولات مكوكية شملت كل من القاهرة وغزة والضفة الغربية ، بالتوازي مع ثلاث جولات للحوار الفلسطيني في القاهرة  بين أعوام 2002، 2003 ، 2004، راحت الجهود المصرية تنصب جميعها، على توحيد الداخل الفلسطيني ، ومنع إراقة دم الأخوة، حيث توجت تلك الجهود بإعلان القاهرة في 17 مارس 2005، الذي أشتمل على ثلاثة بنود أساسية، التهدئة، ووقف الأعمال العدائية لاسرائيل، وتفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية 
الانسحاب أحادي الجانب :
في هذا التوقيت كان رئيس الوزراء الإسرائيلي "ايريل شارون" قد بلور مشروعه للإنفصال "أحادي الجانب" من قطاع غزة، كان شارون ينوي الإنسحاب من كل القطاع فيما عدا محور صلاح الدين "فيلادلفيا" ومعبر رفح، الأمر الذي يوقع غزة في سجن كبير تتحكم فيه إسرائيل. وفى مواجهة هذا المشروع، قام الوزير عمر سليمان بتكليف من الرئيس مبارك، بزيارة عاجلة لإسرائيل، اجتمع خلالها بشارون حيث نقل اليه مطالب مصر المتلخصة في أن يشمل الانسحاب الاسرائيلي قطاع غزة بالكامل، بما في ذلك محور صلاح الدين (فلادلفيا)، ومعبر رفح، ووافق شارون مع محادثات مضنية، وضمانات مصرية بضبط إيقاع الحدود مع القطاع، لتبدأ مرحلة جديدة من إدارة الصراع وفق أدوات جديدة أيضا.
جملة اعتراضية أولى :
هنا يجب أن نذكر - مضطرين -حقيقة، بالتأكيد لا تغيب عن أي لاعب بالسياسة، إذ – من المعروف – أن كل تنازل تقوم به دولة ما لدولة أخرى ، يجب أن تقدم الدولة الأولى ثمنا في مقابله، واحيانا يكون هذا الثمن كبيرا. وهو ما حدث هنا بالطبع مع هذا التنازل الإسرائيلي، وغيره كثير، الذي تم لصالح الفلسطينيين، هذه الحقيقة ندعو دعاة الثورة على كل تفاهم تقوم به مصر مع إسرائيل ، الى التفكير فيه بعمق، والإجابة على السؤال: من الذي يقدم التضحيات تلو التضحيات لصالح القضية الفلسطينية اتساقا مع مبادئه وأخلاقه، ويتحمل في سبيل ذلك الكثير من الغبن، ومن الذي يكتفي بالكلام، ثم يزايد على الآخرين. الغريب أنه في كل مرة تقدم فيه مصر تنازلا من نوع ما لصالح القضية الفلسطينية، يسبقه، ويلحق به، هجوم كبير عليها من دعاة وحماة العروبة والقومية، دون أن يتمكن أحد من الرد، لأن كل معلومة تذكر –هنا- مرتبطة بأمن بلد ومستقبل شعب، ومنوطة بأعناق رجال أقسموا على حماية كل حبة رمل في هذا الوطن، واكتسبوا، عبر عشرات السنين من الإنجاز ، ثقة الجميع بلا تمييز، يسار أو يمين او وسط .

وفد أمني مقيم:
عقب تدشين الإتفاق المصري الإسرائيلي، الذي يقضي بالإنسحاب من غزة، بما في ذلك محور صلاح الدين، ومعبر رفح، تم الدفع بفريق أمني مصري، مكون من طاقمين أحدهما سياسي، والأخر أمني، اقام الوفد في قطاع غزة منذ يوليو 2005 وحتى يونيو 2007، عندما حدث انقلاب حماس الشهير، مطيحا بسلطة الرئيس أبومازن الشرعية .
ساهم الوفد المصري – عبر جهود مضنية لم يحن الوقت للحديث عنها بعد - في إتمام الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة دون طلقة رصاص واحدة أو قطرة دم ، رغم أن الحسابات الإسرائيلية كانت تتحدث عن خسائر بشرية ومادية كبيرة من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي أثناء عملية الانسحاب .
حماس تجهض مقدمات الدولة المستقلة :
كانت مصر ترى في الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، البذرة الحقيقية للدولة الفلسطينية المستقلة، خاصة عندما تزامن ذلك الانسحاب مع عمليات انسحاب أخرى من بعض المناطق في الضفة الغربية . ولكن ما حدث كان مربكا، فبدلا من تحويل القطاع الى سنغافورة أخرى في منطقة الشرق الأوسط – كما هو مخطط في الأجندة المصرية - تحولت ساحات غزة إلى مواجهات دموية عنيفة بين حركتي فتح وحماس.
ومرة أخرى ينشغل الوفد المصري بإطفاء الحرائق المشتعلة بين الفصائل، عوضا عن طرح مشروع سياسي يعجل بقيام الدولة الفلسطينية .
في هذه الأثناء توفي الرئيس والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات "ابو عمار" ، وشدد الرئيس مبارك على ضرورة إجراء أكبر جنازة للزعيم الفلسطيني "الرمز" في قلب القاهرة، تأكيدا على عاملين ، الأول : إظهار مكانة الرجل في قلوب المصريين، والثاني: إرسال رسالة سياسية مفادها ، أن فلسطين تبدأ وتنتهي من القاهرة، وأن مصر ماضية في طريق توحيد الفلسطينيين، وإقامة دولتهم المستقلة .
وانطلاقا من الرسالة الأخيرة، استضاف الرئيس مبارك كلا من احمد قريع رئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك، ومحمود عباس "ابو مازن" المرشح لخلافة عرفات، وروحي فتوح رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي كان يشغل – وقتها- منصب رئيس السلطة طبقاً للقانون الأساسي للسلطة الفلسطينية. 
شرح الرئيس لهم طبيعة المعادلات الإقليمية الموجودة، والخطوات التي قامت بها مصر، والدور المطلوب منهم في المرحلة المقبلة، وشدد على ضرورة المضي قدما نحو مفاوضات جادة تؤدي الى حالة من التهدئة، تمهيدا لطرح مشروع سياسي جاد. ومنذ اللحظة الأولى لتولي أبو مازن السلطة حاولت مصر التأسيس لهذه التهدئة، إذ – وفق وجهة النظر المصرية- لا يمكن أن نتحدث عن أي مشروعات سياسية ، ونحن نركض في قلب دائرة من النار.
جملة اعتراضية ثانية: 
هنا أيضا يجب توضيح قضية مهمة، إذ لا تعني التهدئة إطلاقا، وفق المفهوم المصري، وقف المقاومة، فقد نص إعلان القاهرة الذي تلاه الوزير عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، في قلب القاهرة يوم 17 مارس 2005، وفي حضور ممثلين لثلاثة عشر فصيل فلسطيني، على أن المقاومة حق مشروع للفلسطينيين ما دام هناك احتلال . ولكن الخلاف دائما كان حول مفهوم المقاومة وماهيتها، إذ لا يمكن بحال أن تكون هناك مقاومة بدون قيادة موحدة، أو برنامج سياسي واضح، أو إستراتيجية متفق عليها، وإلا تحول الأمر - كما حدث بالفعل فيما بعد- الى فوضى تؤدي في النهاية الى اقتتال داخلي فلسطيني فلسطيني.
مصر والانتخابات التشريعية :
باركت مصر – منذ اللحظة الأولى- نتائج الانتخابات التشريعية التي فازت فيها حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، والتي جرت على خلفية اتفاقات "أوسلو" بما لها وما عليها . كانت تعليمات الرئيس مبارك – التي يعلمها الأخوة في حماس جيدا – واضحة، اعطوا فرصة لحماس. وجاءت نصائح الفريق المصري لقادة الحركة – أثناء الإجتماع بهم في القاهرة - أكثر من ناصعة، فرقوا بين موقفكم كحركة، وموقفكم كحكومة منتخبة، يجب أن تراعي مصالح شعبها الذي أختارها لحكمه. 
قامت مصر – وفق تلك الإستراتيجية التي وضعها الرئيس مبارك- بإستضافة كافة قيادات حماس في الداخل والخارج، حيث طرح عليهم الوزير عمر سليمان الرؤية المصرية، وناقش معهم حقوقهم، وواجباتهم. ولكن حماس –ابدا- لم تستطع أن تفرق بين هويتها الحزبية ومسئوليتها كحكومة منتخبة، فاشتد الصراع الداخلي بينها وبين حركة فتح، ومرة ثالثة ورابعة وخامسة ينشغل الوفد المصري بجسر الهوة بين الأخوة الفرقاء، تاركا مهمة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، جانبا.
وطوال عام ونصف عقد الوفد الأمني أكثر من مائة وخمسين لقاءً على أكثر من مستوى، سياسي وتنظيمي، في محاولة لرأب الصدع ، والحفاظ على حرمة الدم الفلسطيني، ولكن دون جدوى، فالإصرار على الإنفراد بالسلطة ودفع الأمور نحو الحافة ، كان واضحا من قبل حماس ، تلبية لنداءات إقليمية تارة، وعربية تارة، جميعها لا تخفى على أحد ، وهو ما تبدت خيوطه - فيما بعد - واضحة كقرص الشمس في كبد السماء، عقب الإنقلاب المسلح التي قامت به حماس في القطاع، والتي أطلقت عليه مصطلح "الحسم العسكري".
الفرصة الأخيرة :
قبل هذه الإنقلاب بستة أسابيع، وفي الأول من مايو 2006 استضاف الوزير عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة المصرة – وبتكليف عاجل من الرئيس مبارك - جميع الفصائل في القاهرة للوصول إلى حل وصياغة لوثيقة تحفاظ على الدم الفلسطيني، حيث نذر ما كانت تجهز له حماس كانت ماثلة في الأفق.
لكن حماس تلكأت، والأحداث تسارعت باتجاه ما كانت تخطط له الحركة ، حتى بعد تدخل المملكة السعودية، وتوقيع إتفاق مكة، الذي دعمته مصر بكل قوة، حدث ما كان يخشاه الجميع، حيث تم التنكيل برفاق الدرب والأخوة في النضال، لتدشن حماس – في واحدة من أسوأ الأحداث، في تاريخ الشعب الفلسطيني – عهداً جديداً من الصراع، بدء مع أول ضوء لفجر الرابع عشر من يونيو 2006، ولا يعرف أحد متى ينتهي. 
المصالحة :
أعاد الفريق المصري – المكلف بالملف الفلسطيني - دراسة الموقف سريعا، على الرغم من إدانته الكاملة للانقلاب الدموي لحماس، وتوصل إلى نتيجة مؤداها أنه لا أمل في أي تحرك سياسي يهدف الى الحفاظ على الكيان الفلسطيني، إلا بإنهاء الانقسام وتوقيع المصالحة.
وعلى الفور بدأت مصر خطوات، ماراثونية، مكثفة من اجل الوصول إلى هذا الهدف. ولكن حرصا على أن تأتي المصالحة في اطار تهدئة يتوقف خلالها الجانب الإسرائيلي عن قتل أبناء الشعب الفلسطيني، توصل الفريق المصري إلى إتفاق تهدئة في القاهرة بموافقة جميع الفصائل، بدأ في شهر (يونيو 2008)، واستمر لمدة ستة أشهر، انتهت بقرار من قيادة حركة حماس في دمشق، في الثامن والعشرين من ديسمبر 2008، إنهاء التهدئة، لتبدأ حرب إبادة شرسة من قبل إسرائيل للشعب الفلسطيني الأعزل في غزة في يناير من عام 2009 .
جملة اعتراضية ثالثة وأخيرة :
لابد هنا – أيضا- أن نقرر عدد من الحقائق، الأولى: أن قرار التهدئة الذي تم تدشينه في يونيو 2008 ، كان قرارا جماعيا من كافة الفصائل الفلسطينية، بينما كان قراراً إنهاء التهدئة منفردا من قبل حركة حماس .
الثانية: أن مصر كانت تعلم، قبل انتهاء التهدئة، بنية إسرائيل القيام بعدوان إسرائيلي غاشم على قطاع غزة، مستغلة انهاء التهدئة من قبل حركة حماس، وعلى ضوء تلك المعلومات تحركت مصر بقوة واجرت اتصالات مكثفة مع جميع الأطراف لمنع هذه الحرب، تم خلال تلك الاتصالات تقديم رجاء مصري حار لحماس بالموافقة على تمديد التهدئة لتفويت الفرصة على اسرائيل للقيام بعملية عسكرية، ولكن قادة حماس في الخارج لم يتجاوبوا مع المطلب المصري، واتخذوا القرار الخاطئ – وفق الرؤية المصرية - رغم التحذيرات المتكررة.
الثالثة: أن القرار الذي أتخذته قيادة حماس في الخارج، كانت دوافعه إقليمية، وجاء استجابة لإملاءات إيرانية، وتم فرضه على قيادات حماس في الداخل، رغم معارضتهم له.
الرابعة: أن قرار إنهاء التهدئة، تم اتخاذه بناء على تقدير خاطئ ذهب إلى أن إسرائيل لن تستطيع أن تواجه هبة شعبية عربية اسلامية، وستتراجع عن عملياتها العسكرية فور أجتياح الانتفاضة الشعبية "المزعومة" لعواصم العالم، وبالطبع سيحسب هذا الإنسحاب الإسرائيلي على أنه إنتصار لحركة حماس، ومرة أخرى كان تقدير قيادة حماس ،في دمشق،ومن ومن أوعز لهم بذلك، خاطئا . 
مصر وحرب غزة :
فور بداية الحملة العسكرية الإسرائيلية البربرية على قطاع غزة مباشرة، صدرت تعليمات الرئيس مبارك بضرورة فتح معبر رفح، وتشكيل فريق أزمة لمتابعة الموقف بدقة، وتقديم كل الدعم الواجب للشعب الفلسطيني، وإجراء اتصالات عاجلة مع كل الأطراف المعنية، لوقف العدوان. وعلى الفور بدأت المساعدات الإنسانية والطبية في التدفق على القطاع من خلال معبر رفح، وأصدر الرئيس مبارك تعليماته للفريق المصري، بضرورة إقامة جسر طبي بين رفح  المصرية وغزة، حيث قام الفريق على الفور بالضغط على إسرائيل لإيقاف الحرب لمدة ساعتين، عبرت أثنائهما سبعين عربة اسعاف مصرية ، نقلت الجرحى والمصابين، وعدد من كوادر الحركة المهمين، وجاءت بهم الى مصر.
وظلت القيادة المصرية تضغط مع المجتمع الدولي على إسرائيل، حتى اوقفت الحرب، على الرغم من رغبة إسرائيل في المتابعة. وعلى الفور تم دعوة رئيس أكثر من سبعين دولة ، لمؤتمر إعادة إعمار غزة الذي عقد في شرم الشيخ، حيث تم جمع أكثر من خمسة مليارات دولار لإعادة الإعمار ، ما زالت متوقفة بسبب عدم إتمام المصالحة .
ماذا بعد الحرب ؟!:
ما أن إنتهت حرب غزة ، حتى قررت مصر البدء فى مفاوضات المصالحة فورا ، لعلمها أن العقبة الرئيسية التي تقف في وجه أي تحرك سياسي، أو غير سياسي، ضد إسرائيل، يكمن في إتمام المصالحة الفلسطينية، ولم شمل الفرقاء .
وعلى الفور راح الفريق المصري يجري إتصالاته مع الفصائل الفلسطنية ، حيث حضر منهم إلى القاهرة 13 فصيل بالفعل، كان منهم حركتي فتح وحماس ، حيث بدأ توافد الوفود على القاهرة فى الخامس عشر من فبراير 2009، وبدأت جلسات التفاوض في السادس والعشرين من فبراير 2009، وإنتهت فى العشرين من سبتمبر 2009، أى ما يقارب السبعة أشهر بالتمام والكمال.
أثناء جلسات التصالح وفى شهر مارس تحديدا طلبت حماس لقاءات ثنائية بينها وبين حركة فتح بإعتبارهما طرفى المشكلة، لم تكن مصر ولا الفصائل المشاركة في الحوار ترغب في ذلك ، لكن الوفد المصري الراعي للحوار ضغط على كل الفصائل، وأقنعهم بما في ذلك الرئيس الفلسطيني ، محمود عباس، بإجراء هذا الحوار الثنائى بين الحركتين، والذي استمر خمس جلسات كبرى تخللتهم، رحلتان مكوكيتان إلى كل من غزة ودمشق 
فى اثناء الحوار الثنائي طرحت حماس ستة مطالب، الواحد تلو الآخر وكأن هناك من يدفع بإتجاه إجهاض الحوار بإيدي حماس. تمثلت تلك المطالب الحمساوية في الآتي: 
أولا: الإشتراك فى لجنة تطوير منظمة التحرير الفلسطنية، رغم أن حماس ليست عضوا بها .
ثانيا: إجراء الإنتخابات التشريعية في الرابع والعشرين من يونيو بدلا من الخامس والعشرين من يناير، كما هو موضح بالقانون الأساسي للسلطة . 
ثالثا: إجراء الإنتخابات وفق النظام المختلط ، عوضا عن التمثيل النسبي الذي تحبذه كافة الفصائل الثلاثة عشر المشاركة بالحوار.
رابعا: النص، في الوثيقة التي ستنبثق عن الحوار، على ضرورة بناء الأجهزة الأمنية فى الضفة والقطاع، على الرغم من أن الأجهزة الأمنية في الضفة لا تحتاج الى إعادة بناء، بإعتبارها أجهزة أمن السلطة.
خامسا: تسمي حماس نصف عدد اللجنة المشرفة على تنفيذ الإتفاق . 
سادسا: ضم ملف المعتقلين الى الإتفاق ، والإفراج عنهم فورا ، قبل التوقيع .
وعلى الرغم من تدخل مصر بقوة لمساندة مطالب حماس، واقناع كافة الفصائل، بما فيها حركة فتح، بالقبول بها، إلا أن حماس رفضت في النهاية التوقيع.
بماذا تعللت حماس ؟! 
بعد أن انتهى المفاوضون من صياغة الوثيقة وتحديد الخامس والعشرين من أكتوبر 2009 موعدا نهائيا للتوقيع عليها، حضر وفد من حماس بقيادة رئيس مكتبها السياسي الأخ خالد مشعل إلى القاهرة في الثامن والعشرين من سبتمبر 2009، حيث قابل المسئولين المصريين ، واعلن في مؤتمر صحفي عالمي – في إنتهاء زيارته- رضاه التام وقبول حركته لوثيقة المصالحة، مبشرا بإن عصر الإنقسام الفلسطيني قد ولى.
عاد خالد مشعل إلى دمشق، وفى الخامس عشر من أكتوبر – أي بعد خمسة عشر يوما من زيارته للقاهرة - حضر نائبه الأخ موسى أبو مرزوق الى القاهرة، ليطلب من الوفد المصري تأجيل التوقيع على الإتفاق، بحجة أنهم لا يستطيعون مصافحة الرئيس أبو مازن.
كانت حجة حماس وقتها أن أبو مازن لم يوافق على إدخال تقرير جولدستون (مبعوث الأمم المتحدة للتحقيق للتحقيق في إنتهاكات إسرائيل ضد الفلسطينيين أثناء حرب غزة) للمناقشة فى مجلس الأمن،كان أبو مازن – وقتها - يرى تأجيل إدخال التقرير الى مجلس الأمن، الى وقت آخر تتحسن فيه الأجواء ،داخل مجلس الأمن، لصالح الفلسطينيين، الأمر الذي لم تقدره حماس متهمة أبو مازن بالتسويف لصالح إسرائيل.
توصل الفريق الأمني المصري إلى حل سريع، حيث إقترح على مبعوث حماس أن يتم التوقيع على المصالحة على أن تؤجل المراسم الرسمية والإعلان، إلى الوقت الذى تحدده حماس،وتكون نفسيا مستعدة لأن تصافح فيه أبو مازن، لكن حماس رفضت،رغم أن عزام الأحمد مبعوث أبو مازن كان قد حضر إلى القاهرة فى نفس اليوم الخامس عشر أكتوبر ووقع على الإتفاقية.
كانت تعليمات الرئيس مبارك، للوفد المصري، واضحة، لا وقت للتسويف، ولا وقت للإملاءات الإقليمية، إما أن توقع حماس وإما أن تواجه مسئولياتها التاريخية، تجاه شعبها، وهو ما أبلغه الوفد المصري لحماس، حيث تحدد الخامس والعشرين من أكتوبر 2009 موعدا نهائيا للتوقيع على الوثيقة، وتم إعلام مبعوث حماس برسالة مصر، إما أن تقبلوا الإتفاق الذي قمتم بصياغته، وتوقعوا عليه ، وإما أن نعلنه بدونكم ونعلن للعالم كله رفضكم للمصالحة.
بعد أقل من 48 ساعة أرسلت حركة حماس لمصر خطابا تعتذر فيه عن التوقيع وعللت ذلك بوجود ملاحظات على الإتفاق ، وبدأت حملة إعلامية للترويج إلى أن الإتفاق ليس إلا ورقة مصرية .
في محاولة أخيرة لاستيعاب مراوغات حماس، أعلنت مصر عن إمكانية الأخذ بأي ملاحظات لحماس أثناء عملية تنفيذ الإتفاق ، فقط يتم التوقيع ، لتبدأ مسيرة المصالحة والوفاق، على وعد بحل أى خلاف ينتج أثناء التنفيذ، لكن حماس ردت بالرفض، مشددة على أن يتم كل شئ قبل التنفيذ، الأمر الذي دعا مصر الى التمسك أكثر بموقفها ، إنطلاقا من رؤيتين، الأولى : أن حماس لا يمكن أن توقع في هذا التوقيت دون موافقة صريحة من كل من إيران وسورية، والثانية: أن الموافقة على ملاحظات حماس ، ليس فقط سوف يفتح الباب لملاحظات أخرى من قبل إثنى عشر فصيلا آخرين ، إنما سيفتح الباب للبدء مرة أخرى من نقطة الصفر، وهو ما تهدف إليه حماس ، ومن ورائهم من قوى إقليمية.
وماذا بعد ؟
حماس تضع العصا في العجلة، رافضة التوقيع لغرض في أنفسهم ، تعرفه ونحن نعرفه ، وجماهير الشعب الفلسطينى في غزة والضفة والمنافي باتوا يعرفونه، وإسرائيل تلتهم كل يوم مزيداً من الأرض الفلسطينية، حتى وصلت الى المسجد الأقصى، والجماهير تهتف "يا عباس يا هنية فين الوحدة الوطنية" ونحن نقول لهم وبكل وضوح أن عباس قد قبل ووقع على وثيقة المصالحة، وان هنية مغلوب على أمره، وأن الهتافات يجب أن توجه في النهاية، الى السيد خالد مشعل، وقيادة الحركة في دمشق، ومن يقف خلفهم من قوى إقليمية تحرص على بقاء الوضع الفلسطيني كما هو، خدمة لمصالحها، وإلا فالبقاء لله في الأقصى والقضية الفلسطينية.