الخميس 28 مارس 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبد الرحيم علي يكتب.. عملية ذبح المسلمين باسم الفقه ورجاله

نشر
عبد الرحيم علي

من المنطقى أن يقود الجمود‏،‏ والإعراض عن التجديد‏،‏ والتشبث بكل ما هو تقليدى استاتيكي‏،‏ إلى حالة فكرية خطيرة‏،‏ تتجلى أهم مظاهرها فى الاعتقاد اليقينى بامتلاك الحقيقة المطلقة والصواب الذى لا يداخله الشك‏،‏ وهو إيمان يقترن بالماضى وحده‏،‏ ويتعلق بالأفكار القديمة مهما تنأى عن روح العصر وتتناقض مع إيقاعه المختلف‏.‏

 

مناقشة قضية مهمة مثل حرية الرأى والتعبير فى الإسلام تستدعى التوقف أمام بعض الإشكاليات التى يتجاوزها من يقنعون بالظاهر السطحي‏،‏ ويقفزون إلى النتائج التى يرغبونها ويريدون البرهنة عليها‏،‏ دون نظر إلى المقدمات والجذور والممارسات المتراكمة عبر قرون مضت إلى أيامنا المعاصرة‏.‏

 

الإشكالية الأولى‏

 

تتعلق بالتداخل بين النظرى والعملى فى التعامل مع التراث الإسلامي‏،‏ ففى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وهى الأساس النظرى ما يتيح القول بأن الإسلام يعلى من شأن الإنسان وحقوقه‏،‏ ويتيح حرية التعبير دون قيود‏.‏ وفى المقابل‏،‏ فإن التاريخ الإسلامى وممارسات المسلمين‏،‏ تقدم سلوكًا عمليًا يختلف جذريًا عن ذلك الإطار النظرى المثالي‏، وفى هذا السياق‏،‏ يؤكد بعض الباحثين أن الإسلام سابق للمواثيق الدولية الحديثة التى تدعو إلى حقوق الإنسان وحريته فى التعبير‏،‏ لكن هؤلاء يستندون فى أحكامهم إلى قراءة النصوص وحدها‏،‏ بمعزل عن السياق التاريخى الذى يفرز الضد‏،‏ ويشير إلى غلبة الممارسات التى لا تمت بصلة إلى القرآن والسُنة‏.‏

 

الإشكالية الثانية‏

 

تتمثل فى ضرورة الانتباه إلى التمييز بين حرية التعبير فى إطار الالتزام الديني‏،‏ وحرية التعبير فى إطارها العام الذى يتعلق بالدنيا وشئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية‏.‏

 

حرية التعبير قد تعني الحق فى الاجتهاد والاختلاف من منطلق دينى صرف‏،‏ ولكن إطلاق الحق يصطدم بالكثير من المعوقات التى تقيد الحرية موضوعيًا، وتضع مرجعية مقدسة لا ينبغى تجاوزها‏،‏ ولا يمكن إهمالها أو إهدار خطورتها‏.‏

 

ومن هنا فإن غير المسلمين‏،‏ ومن خلال استقرائهم لمعطيات التاريخ الإسلامي‏،‏ قد يذهبون إلى القول بأن مفهوم حرية التعبير فى الإسلام إنما يعنى حق المسلمين وحدهم فى اعتناق رؤى مختلفة تنم عن تباين فهمهم للدين واجتهادهم فى التأويل على أساس الانتماء إلى الإسلام‏،‏ وبذلك فإن الحق فى التعبير ليس متاحا للجميع‏،‏ ولا يعني تجاوز الدينى إلى الدنيوي‏.‏

 

الإشكالية الثالثة‏

 

تتجسد فى القراءة الانتقائية غير الموضوعية‏،‏ التى يلجأ إليها كثير من أنصار الإسلام وخصومه‏،‏ فكل فريق يقرأ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ويفسرها كما يحلو له‏،‏ وكل فريق يبحث عن دليل لإثبات وجهة نظره والانتصار لها‏،‏ ولا يبالى كلا الفريقين بما يختارون أو بما يهملون‏،‏ المهم هو البرهنة على صواب الرؤية المراد إثباتها والتدليل عليها‏.‏

 

دراستنا هذه تسعى إلى التعرف الموضوعى على مفهوم حرية الرأى والتعبير فى الإسلام باعتباره الركيزة الأساسية التى بدونها تسقط كل فروع الدولة المدنية ومدعيها‏،‏ وذلك فى إطار اجتهاد عقلاني‏،‏ يعى خطورة وأهمية الإشكاليات الثلاث التى أشرنا إليها آنفًا‏، وفى هذا السياق‏،‏ تضم الدراسة ثلاثة أقسام‏.‏

 

أولًا‏:‏ القرآن وحرية الرأى والتعبير‏.‏

 

ثانيًا‏:‏ سنة الرسول ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ وحرية الرأى والتعبير‏.‏

 

ثالثًا‏:‏ حرية الرأى والتعبير فى الفكر الإسلامي‏.‏

 

وغاية ما يأمله الباحث أن يكون اجتهاده نافعا فى تسليط الضوء على قضية خطيرة‏،‏ تتعلق بالفكر الإسلامى من ناحية‏،‏ وهو الذى يتعرض لكثير من سوء الفهم من قبل كثير من الجاهلين به والمحسوبين عليه‏،‏ خاصة أولئك الذين رفعوا شعاراته زورًا وبهتانًا فى محاولة للمرور عبرها إلى ما يخططون له‏،‏ وهو الدولة الدينية‏،‏ وتتعلق بواقع المسلمين ومستقبلهم من ناحية أخرى،‏ من منطلق أنهم جزء من المنظومة الإنسانية الشاملة‏.‏

 

قضايا جوهرية‏

 

يهدف هذا التمهيد إلى مناقشة بعض المصطلحات والقضايا الجوهرية‏،‏ التى يرى الباحث أن الوعى بأبعادها يمثل مدخلًا لا غنى عنه‏،‏ من أجل الإدراك الصحيح المتكامل لمفهوم حرية الرأى والتعبير فى الإسلام‏:‏

 

ـ مكانة الإنسان فى الإسلام.

 

ـ ثنائية الجبر والاختيار.

 

ـ معنى الاجتهاد وأهميته.

 

مكانة الإنسان فى الإسلام‏‏

 

إذا كان حق الإنسان فى التعبير الحر عن آرائه وأفكاره ومعتقداته مطلبًا لا غنى عنه ولا تفريط فيه‏،‏ كما تدعو مفاهيم وقيم العصر الحديث‏،‏ فإن الإحاطة الواعية الموجزة بنظرة الإسلام إلى الإنسان‏،‏ تبدو ضرورية قبل التطرق إلى مناقشة موقف الإسلام من حرية الرأى والتعبير‏.‏

 

ينظر القرآن الكريم إلى الإنسان على اعتبار أنه قيمة غالية ثمينة‏،‏ فهو خليفة الله على الأرض‏،‏ والمسئول عن تحمل الأمانة الثقيلة التى لا تطيقها الكائنات والمخلوقات الأخرى‏:

 

«وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعملون» ‏(البقرة‏: ٣٠)‏.

 

لقد وردت مفردة الإنسان فى عشرات من الآيات القرآنية‏،‏ وكثيرة هى الدراسات التى توقفت أمام صورة الإنسان فى القرآن الكريم ‏(عباس محمود العقاد‏:‏ الإنسان فى القرآن‏،‏ دار الهلال‏،‏ القاهرة‏، ١٩٦٦)‏ لا تتسع المساحة هنا لتقديم عرض تفصيلى للجوانب المختلفة عن طبيعة الإنسان فى القرآن‏،‏ ولكن الركائز المهمة لهذه الصورة‏:‏

 

‏١‏- الإنسان خليفة الله على الأرض‏.‏

 

‏٢-‏ وهو المسئول عن إعمار الكون واستمرار وجوده‏.‏

 

‏٣‏- مثل هذه المهمة الجليلة لا تنافى محدودية الكائن الإنساني‏.‏

 

‏٤-‏ يختلط الخير والشر فى أعماق الإنسان‏،‏ فهو ليس ملاكًا ولا شيطانًا‏.‏

 

‏٥-‏ هذا الاختلاط والتداخل هو ما يجعل من الإنسان كائنًا متفردًا‏،‏ ذا إرادة وقدرة على التمييز بين الخير والشر‏.‏

 

الإنسان مجبول على الفساد والإفساد وسفك الدماء‏،‏ والإنسان وهذا سر عظمته وتميزه يمتلك التى تتيح له أن يسعى إلى الارتقاء والسمو‏،‏ ولا بديل عن امتلاكه للأدوات التى تتطلبها الإرادة‏:‏ إعمال العقل‏،‏ والقدرة على التعبير‏،‏ والحق فى إبداء الآراء المخالفة للسائد والشائع‏.‏

 

لا يمكن منطقيًا أن يكون خليفة الله على الأرض عرضة للاضطهاد والظلم والقهر والقمع والكبت‏،‏ والقرآن الكريم يمنحه ما يستحق من الاحترام والتقدير والتبجيل‏،‏ لكن المشكلة فيمن يفهمون القرآن ويفسرونه ويحولون أحكامه الإلهية السامية إلى دولة وسلطان وسياسة قوامها المصلحة والمنفعة‏.‏

 

المحافظون المتزمتون‏،‏ يدعون إلى الأخذ بالنص الحرفى للعقيدة بلا تصرف‏،‏ ولا يعترفون إلا بالأوضاع التى وردت فى ذلك النص، والحلول التى أتى بها لهذه الأوضاع‏،‏ ومن الواضح أن هذا الموقف يؤدى إلى إيجاد هوة سحيقة‏،‏ وازدواجية عميقة‏،‏ بين المصدر الذى يستمدون منه أفكارهم ويبنون عليه تصرفاتهم‏،‏ وبين الظروف الفعلية التى يعيشون فيها‏،‏ وتنعكس هذه الازدواجية بوضوح على إخفاقهم فى التصدى لمشكلات العصر‏،‏ ومخاطبتهم الجماهير‏،‏ والأجيال الجديدة بوجه خاص‏،‏ بلغة يصعب أن نجد لها انطباقًا على الواقع‏. (د‏.‏ فؤاد زكريا‏:‏ الصحوة الإسلامية فى ميزان العقل‏،‏ ص‏١١٠)‏.

 

المفارقة‏،‏ التى تستحق الاهتمام والتأمل‏،‏ أن النص القرآنى يتسع للكثير من الحقوق التى لا يقر بها من يعتقدون أنهم أوصياء على الإسلام ومحتكرون لفهمه واستنباط أحكامه وشرائعه‏.‏

 

ثنائية الجبر والاختيار‏

 

الجبر والاختيار‏.. ‏من القضايا التى شغلت الكثير من فقهاء الإسلام على مر العصور‏،‏ وانقسموا حولها إلى فريقين‏:‏ فريق يقول إن الإنسان مجبر‏.. ‏أى مسير لا حيلة له ولا إرادة ولا اختيار‏،‏ لأنه محكوم بما حددته له الإرادة الإلهية‏.‏ وفريق يقول إن الإسلام يعلي من قيمة العقل والتبصر‏،‏ والإنسان يجنى ثمار أعماله واختياراته فى الدنيا والآخرة‏.‏

 

يقول الشيخ محمد الغزالي‏:‏ لقد شاء الله لحكمة لا نعلمها أن يخلقنا ويكلفنا‏،‏ وقال فى وضوح‏:‏ «الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور» (الملك‏: ٢‏)، فجاء من يزعم أن الحياة رواية تمثيلية خادعة‏!‏ وأن التكليف أكذوبة‏!‏ وأن الناس مسوقون إلى مصايرهم المعروفة أزلًا طوعًا أو كرهًا‏!‏ وأن المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل‏،‏ ومنع الاحتجاج المرفوض‏،‏ بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة‏..! (‏محمد الغزالي‏:‏ السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص‏١٧٢)‏.

 

والواقع أن عقيدة الجبر تطويح بالوحى كله‏،‏ وتزييف للنشاط الإنسانى من بدء الخلق إلى قيام الساعة‏،‏ بل هى تكذيب لله والمرسلين قاطبة‏..‏ ويواصل الغزالي‏:‏ كل ميل بعقيدة القدر إلى الجبر فهو تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس‏،‏ وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية‏،‏ ومن أثرها فى حاضر المرء ومستقبله‏،‏ وكأنهم يقولون للناس‏:‏ أنتم محكومون بعلم سابق لا فكاك منه‏،‏ ومسوقون إلى مصير لا دخل لكم فيه فأجهدوا جهدكم فلن تخرجوا عن الخط المرسوم لكم مهما بذلتم‏!‏

 

إن هذا الكلام الرديء ليس نضج قراءة واعية لكتاب ربنا‏،‏ ولا اقتداء دقيقا بسنة نبينا‏،‏ إنه تخليط قد جنينا منه المر‏..!!‏ (المرجع السابق ص‏١٧٦‏)، إن القراءة الواعية للقرآن الكريم والسُنة النبوية الصحيحة تقودنا إلى مجموعة من المبادئ العامة التى تحكم نظرة الإسلام إلى حرية الرأى والتعبير‏،‏ وهى مبادئ يمكن استنباطها من حقيقة أن الإنسان حر ذو إرادة‏،‏ وأنه ليس محكومًا بالإجبار والجبر‏:‏

 

ـ إن الإيمان والكفر قضية شخصية لا تهم إلا صاحبها‏،‏ بمعنى أنها ليست من القضايا التى تندرج تحت سلطة النظام العام‏،‏ وبالتالى فلا تدخل ولا إكراه عليها من أى جهة.

 

ـ إن الرسل ليسوا إلا مبشرين ومبلغين‏،‏ ليس لهم سلطة الإكراه على أحد‏.‏

 

ـ إن الهداية إنما هى من الله وطبقًا لمشيئته‏،‏ والأنبياء أنفسهم لا يملكون وحدهم هداية الناس‏.‏

 

ـ إن الاختلاف والتعدد بين البشر مما أراده الله‏،‏ ومما يفصل فيه يوم القيامة‏،‏ وأن الإسلام يؤمن بجميع الرسالات السابقة ويدعو إلى احترام معتنقيها وعدم المساس بحريتهم سواء فى الاعتقاد أو الدعوة إلى مبادئ عقائدهم شرط ألا يفتنوا المسلمين عن طريق استخدام القوة للتحول عن دينهم الذى ارتضوا‏.‏

 

ـ إنه لا يوجد عقاب دنيوى على ترك الإنسان ‏(أى إنسان‏)‏ لدينه والتحول إلى دين آخر ‏(‏المزيد من التفاصيل فى ثنايا الدراسة‏،‏ راجع‏:‏ جمال البنا‏:‏ حرية الفكر والاعتقاد فى الإسلام ص‏٧)‏.

 

لكن‏:‏ ما الذى أوصل المجتمع الإسلامى إلى ما وصل إليه من تعصب أعمي‏،‏ وتطرف مذموم أصاب الأمة الإسلامية بجمود فكرى لا حدود له‏،‏ أصبح معه القبول بالاستبداد السياسي‏،‏ وتقديس الشخصيات التاريخية‏،‏ والأفكار التى تدعو إلى قهر الآخر وإجباره على اعتناق فكر بعينه‏،‏ هى البضاعة السائدة فى مجمل تراثنا الثقافى والفكر المعاصر؟ غلق باب الاجتهاد أمام العقل المسلم هو الذى أدى بنا إلى هذه الحالة المأسوية التى ندفع وما زال يدفع ثمنها الملايين من أبناء هذه الأمة المحبطة‏.‏

 

من هنا‏،‏ كان لا بد لنا ونحن نمهد لهذا البحث‏،‏ عن حرية الرأى والتعبير فى الإسلام‏، ‏من توضيح لمعنى وأهمية الاجتهاد من منظور إسلامي‏.‏

 

معنى الاجتهاد وأهميته‏‏

 

الاجتهاد‏،‏ الذى أمرت به نصوص عديدة من القرآن والسُنة‏،‏ معناه بذل الجهد العقلى والفكرى فى التعرف على الحكم الشرعى لما يعرض للفقيه أو المفتى أو القاضى من مسائل‏.‏

 

وأصل الاجتهاد مقرر فى الشريعة بفعل النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ نفيه‏،‏ وبأمره أصحابه بالاجتهاد فى حضرته‏،‏ وبإقراره اجتهاد من اجتهد منهم فى غيبته‏،‏ ووقائع ذلك مذكورة بالتفصيل فى كتب أصول الفقه وفى كتب تاريخ التشريع وفى كتب عديدة خصصها مؤلفوها لموضوع الاجتهاد دون سواه‏.‏

 

وفى النصف الثانى من القرن الرابع الهجري‏،‏ نشأ القول بمنع الاجتهاد وعرفت المسألة باسم‏:‏ قفل باب الاجتهاد وقيل بعد ذلك بوجوب التقليد مطلقًا دون تحديد من الذى يجب تقليده من العلماء‏…‏ ثم تطور الأمر إلى القول بوجوب تقليد واحد من الأئمة الأربعة،‏ وعلى الرغم من أن مسألة القول بقفل باب الاجتهاد لم يرد فيها نص من الكتاب ولا السُنة فقد لجأ إليها القائلون بها من العلماء لأسباب من أهمها‏:‏

 

– تدوين المذاهب وتكامل نصوص مؤسسيها وأتباعهم‏.‏

 

– الضعف السياسى الذى أصاب هيكل الدولة الإسلامية فتفتت إلى دويلات متنافسة.

 

– تولية القضاء لأتباع المذاهب فشاع تقليدها طمعًا فى الولايات الدنيوية‏.‏

 

– أهم من ذلك كله أن العلماء وجدوا من لم يتأهلوا للاجتهاد يدعون أنهم مجتهدون ويفتون الناس بآرائهم‏،‏ فأرادوا سد الطريق أمام هؤلاء المدعين فقالوا بقفل باب الاجتهاد‏،‏ بل قالوا بأن هذا محل إجماع فلم يكن الذين قالوا بمنع الاجتهاد من أعداء الأمة أو أعداء الدين كما قد يفهم البعض ولكنهم كانوا فقهاء أرادوا تحقيق هدف نبيل لكنهم أخطئوا الطريق إليه‏.‏

 

أرادوا منه أولئك المدعون من إضلال العباد باجتهادهم المزعوم‏،‏ وأخطئوا بادعاء ما ليس لهم أن يدعوه ‏(د‏.‏ محمد سليم العوا‏:‏ الفقه الإسلامى فى طريق التجديد‏، ‏ص‏٢٥‏).

 

ولذلك‏،‏ فإن الصحيح الذى يذهب إليه الفقه العصري‏،‏ بلسان أعلامه وأقلامهم‏، ‏أن الاجتهاد باقٍ ما بقى الإسلام نفسه لا يملك أحد منع من استكمل التأهل له من ممارسته‏.‏

 

ومن أعجب الآفات التى تعانى منها مجتمعاتنا العربية اليوم آفة طلب كل ذى رأى أن يكون له الحق والحرية فى إبداء رأيه وإعلانه والدعوة إليه‏،‏ ثم حجره هو نفسه على الآخرين أن يتمتعوا بمثل هذا الحق، وأن يمارسوا مثل تلك الحرية‏.‏

 

والإيمان بالحق فى الاجتهاد يقضى على هذه الآفة ويحاصرها ويمنع انتشارها ويئد مضارها الكثيرة‏،‏ وأخطرها نشوء أجيال من المتعصبين الذين لا يرون إلا رأيهم ولا يسلمون إلا بحقوق أنفسهم‏،‏ وهؤلاء هم وقود الغلو‏ (الذى يسميه الناس تطرفًا‏)‏ الذى يقضى فى نهاية مطافه على الأخضر واليابس من حياتنا الفكرية والثقافية ‏(‏المرجع السابق‏،‏ ص‏٢٩)‏ هل يعقل أن يظل المسلمون أسرى ما قاله علماء أجلاء فى القرون السابقة فى وصف نظم الحكم التى كانت سائدة لديهم وهى كلها نظم فردية محورها هو الحاكم الذى تدين له بالطاعة‏،‏ وتستمد منه القدوة‏،‏ سائر السلطات والهيئات والأفراد؟

 

وهل يعقل أن يظل المسلمون يحتكمون ويرجعون فى علاقاتهم بغير المسلمين من مواطنيهم إلى أفكار وآراء صيغت لتناسب حال الحرب التى كانت سائدة فى وقت ما‏،‏ بعد أن مضت على الحياة المتآخية بين الفريقين قرون؟

 

إن النصوص الصريحة واجبة الاتباع‏.‏

وإن هدف الاجتهاد هو تطبيق هذه النصوص فى الزمن الذى يقع الاجتهاد فيه ‏(‏نفسه‏،‏ ص‏١٤٢)‏ إن فى الإسلام سماحة ويسرا‏،‏ تنطق بهما آيات الكتاب الكريم‏،‏ وتجسدهما سيرة النبى العظيم وتقوم عليهما شرائعه وشعائره وآدابه‏.. ‏إن الإيمان لا يلغى دور العقل‏.. ‏وشمول الإسلام لا يعنى أن النصوص تعالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة‏،‏ فذلك فضلًا عن استحالته غير مقبول فى ظل ما تركه الإسلام للعقل من حرية الحركة وواجب الاجتهاد‏..‏ وخلود الإسلام لا يعنى جمود شريعته، وإنما يعنى قدرتها على التجدد والإبداع لملاقاة حركة الحياة وتغير أشكالها، وأصالة المسلمين لا تعنى عزلتهم عن الناس وانغلاقهم على أنفسهم‏،‏ وإنما تعنى الاتصال بالناس والعيش معهم‏..‏ إن الشريعة غير الفقه‏،‏ كما أن الدين غير التدين‏..‏ فالشريعة هى مجموعة أحكام الله تعالى الثابتة عنه وعن نبيه ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)،‏ والتى تنظم أفعال الناس‏.. ‏ومصدرها كتاب الله وسُنة نبيه‏ (‏صلى الله عليه وسلم‏)،‏ أما الفقه فهو عمل الرجال فى الشريعة‏،‏ استخلاصًا لأحكامها وتفسيرًا لنصوصها وقياسًا على تلك النصوص فيما لم يرد فيه نص‏،‏ وطلبًا للمصلحة فيما يعرض من أمور السياسة‏،‏ وإذا كانت الشريعة حاكمة كما يقال‏..‏ فإن الفقه محكوم بكل ما يحكم عمل الرجال وسلوكهم فى الجماعة‏.‏

 

والطاعة الواجبة على المسلم إنما هى طاعة الشريعة‏.. ‏وليست طاعة الفقه ورجاله‏. (‏د‏.‏ أحمد كمال أبو المجد‏:‏ حوار لا مواجهة ص‏٨٩)‏.

إن مجال الاجتهاد فى التشريع مجال واسع وكبير‏،‏ لأن ما لم تتناوله النصوص كثير بالقياس إلى ما تناولته‏.‏

 

وليس ذلك كما يتوهم البعض قدحًا فى الشريعة ولا هو نيل من قول الله تعالى ‏(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء)، بل هو آية الحكمة ودليل الكمال فى شرع الذى خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، والذى يعلم وله المثل الأعلى أن العالم يتطور‏،‏ وأن أشكال الحياة تتغير‏،‏ وأن مشاكل الناس تتبدى فى قوالب جديدة‏.. ‏لأنه سبحانه كما أودع ناموس الحركة فى الكون والمجتمع‏،‏ أودع نعمة العقل فى الرءوس ليلاقى شرعة الحركة بمثلها وليستجيب للتطور فى الحياة بتطوير فى الأحكام‏،‏ وهو وحده الكفيل بحماية الشريعة وتحقيق مقاصدها الدينية‏.‏

 

الواقعة الاجتماعية هى السند المادى لكل نشاط تشريعى فقهي‏.. ‏ومعنى هذا أن جزءًا كبيرًا من الاجتهاد يجب أن يتجه إلى رصد الظواهر الاجتماعية وفهمها وتحليلها وتصور الحلول التشريعية المختلفة التى تتعامل معها‏،‏ وتحليل النتائج العملية التى تترتب على كل اختيار فقهى مطروح‏.. ‏ذلك أن التشريع ليس نظرًا فلسفيًا ولا رياضة عقلية‏،‏ وإنما هو رعاية لمصالح الناس بسلطان الحكم‏،‏ ولذلك قال الإمام الشاطبى بحق إن التكاليف الشرعية ترجع كلها إلى تحقيق مقاصدها فى الخلق‏.‏

 

وحين يمارس الاجتهاد‏، ‏وتعرض على المشرع والفقيه ورجل السياسة حلول متعددة تقبلها الشريعة الإسلامية وتتسع لها‏،‏ فإن الاختيار حينئذ لا بد أن يحكمه فهم الواقع الاجتماعى وتحليل حركته‏،‏ لذلك وجب أن يستقر فى ذهن دعاة الإسلام والمنادين بتطبيق الشريعة أن الجهد الفقهى الخالص لا بد أن يتممه عمل اجتماعى واسع‏،‏ حتى تأتى ثمرته رحمة حقيقية للناس‏،‏ ومخرجًا لهم من الضيق‏،‏ ورفعًا للحرج ‏(‏المرجع نفسه‏،‏ ص‏٩١)‏.

ولكن لماذا يحجم علماء الإسلام عن الاجتهاد فى العصر الحديث؟

الإيمان والكفر فى الإسلام قضية شخصية لا تهم إلا صاحبها

إن الشريعة غير الفقه‏،‏ كما أن الدين غير التدين‏..‏ فالشريعة هى مجموعة أحكام الله تعالى الثابتة عنه وعن نبيه ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)،‏ والتى تنظم أفعال الناس‏.. ‏ومصدرها كتاب الله وسُنة نبيه‏ (‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ أما الفقه فهو عمل الرجال فى الشريعة‏،‏ استخلاصًا لأحكامها وتفسيرًا لنصوصها وقياسًا على تلك النصوص فيما لم يرد فيه نص‏،‏ وطلبًا للمصلحة فيما يعرض من أمور السياسة‏.

الاختلاف والتعدد بين البشر مما أراده الله

حرية التعبير قد تعنى الحق فى الاجتهاد والاختلاف من منطلق دينى صرف‏،‏ ولكن إطلاق الحق يصطدم بالكثير من المعوقات التى تقيد الحرية موضوعيًا وتضع مرجعية مقدسة لا ينبغى تجاوزها‏،‏ ولا يمكن إهمالها أو إهدار خطورتها‏.‏

لا يوجد عقاب دنيوي على ترك الإنسان لدينه

من أعجب الآفات التى تعانى منها مجتمعاتنا العربية اليوم آفة طلب كل ذى رأى أن يكون له الحق والحرية فى إبداء رأيه وإعلانه والدعوة إليه‏،‏ ثم حجره هو نفسه على الآخرين أن يتمتعوا بمثل هذا الحق، وأن يمارسوا مثل تلك الحرية‏، والإيمان بالحق فى الاجتهاد يقضى على هذه الآفة، ويحاصرها، ويمنع انتشارها، ويئد مضارها الكثيرة‏،‏ وأخطرها نشوء أجيال من المتعصبين الذين لا يرون إلا رأيهم ولا يسلمون إلا بحقوق أنفسهم‏.