الجمعة 19 أبريل 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

الصادق المهدي في حواره مع عبد الرحيم علي: هناك من يريد فصل السودان عن محيطه العربي لصالح أمريكا

نشر هذا الحوار بتاريخ 14/12/2002 - إسلام أون لاين..نت

نشر
عبد الرحيم علي

المهدى:  دور أمريكي معتدل فيما يخص عملية السلام في السودان

المهدى: ماشاكوس الثانية عبارة عن اتفاق مطابق لما كان قد قدم في مذكرة المبادرة المشتركة
لم يكن الحوار مع السيد الصادق المهدي مجرد حوار مع رجل سياسة حكم السودان في فترة من الفترات وترأس حكومته، ولكنه كان حوارًا معه باعتباره مفكرًا استراتيجيًا يشرح بوعي حاد وبصيرة نافذة التحديات التي تقف أمام تحقيق إصلاح ديمقراطي وسلام شامل في السودان.
قال المهدي بأن الدور العربي في قضية السودان أصبح ضروريًا في المرحلة الراهنة لتحقيق التوازن، ودعا إلى مشاركة كافة القوى السياسية في صياغة المرحلة النهائية لاتفاق «ماشاكوس»، موضحًا أن إقامة سودان عادل وديمقراطي وتحقيق مبدأ "المواطن أساس الانتماء" هو جوهر عملية السلام في السودان.

وأكد المهدي في حواره مع "إسلام أون لاين.نت" من القاهرة أن الديمقراطية بدأت في السودان، وأن كافة العوامل الدولية والإقليمية والمحلية تدفع في اتجاه تعميقها، وصولاً إلى انتخابات عامة حرة، مشيرًا إلى دور أمريكي معتدل فيما يخص عملية السلام في السودان عكس سياساتها المعتادة في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، ومشددًا على أن الجميع في السودان يقبلون بهذا الدور خاصة. وفيما يلي تفاصيل الحوار:

* على ضوء رؤيتكم للحل الشامل في السودان كيف ترون ما حدث في إطار اتفاقات ماشاكوس؟

** بداية.. يجب أن نلقي نظرة سريعة على ما سبق ماشاكوس من ملابسات سياسية داخل السودان؛ حتى نضع أيدينا على إجابة للسؤال الأساسي: كيف وصلنا إلى ماشاكوس؟ ولماذا لم يكن الاتفاق مفاجئًا بالنسبة لنا؟ ففي بداية التسعينيات وبالتحديد منذ عام 1993 حدث استقطاب حاد في السودان بين القوى السياسية المختلفة في شمال السودان وجنوبه نتيجة للبرنامج الإسلامي الحزبي الذي طرحه النظام الحالي، هذا الاستقطاب نتج عنه مناخ سياسي دعا المعارضة إلى تقديم برنامج للوفاق الوطني من خلال تفعيل أسس محددة:

أولاً: الاعتراف بالمواطنة كأساس للحقوق الدستورية.

ثانيا: الاعتراف بالوحدة الطوعية عبر تقرير المصير.

ثالثًا: الاعتراف بالتعددية السياسية.

وقد تم قبول هذه المعاني من كل الأطراف بما فيها النظام؛ لذلك فماشاكوس الأولى من حيث الأفكار والمبادئ التي وردت فيها لم تكن فيها أي مفاجآت، ولم تختلف عما كان قد قررته اتفاقات سياسية سابقة بين كافة القوى والأحزاب السياسية في السودان.

* هذا عن ماشاكوس الأولى.. فماذا عن ماشاكوس الثانية؟

** ماشاكوس الثانية عبارة عن اتفاق مطابق لما كان قد قدم في مذكرة المبادرة المشتركة (المصرية الليبية) التي تضمنت "حكومة انتقالية، دستورا ديمقراطيا، انتخابات حرة، مراقبة دولية". لذلك فإن ماشاكوس الأولى كما قلت لك والثانية أيضًا ليس فيهما أي شيء مخالف لرغبة وتطلعات القوى السياسية المختلفة في السودان، وكما سبق أن اتفقت عليه هذه القوى وما دار في الأدب السياسي السوداني قبل ماشاكوس.

*إذن ما هو الجديد في اتفاقات ماشاكوس الذي تعترض عليه قوى المعارضة؟

* الجديد في أمر ماشاكوس أن تلك الاتفاقات الثنائية بين الأطراف السودانية لم تحظَ باتفاق الأطراف المختلفة بصورة تسري في التنفيذ. والجديد أيضًا هو توافر عامل الثقة؛ فقد اتضح بعد سنوات من الطرح السياسي لحل شامل لمشكلة السودان من كافة القوى السياسية أن الأطراف الوطنية السودانية توجد بينها "فجوات" ثقة، وأن المطلوب كان تدخل طرف ثالث يقوم بزرع هذه الثقة، وسد هذه الفجوات التي عجزت المبادرة المشتركة (المصرية الليبية) ومبادرة "الإيجاد" أن تقوما به، ومن هنا جاء العامل الدولي الذي لعبت فيه الولايات المتحدة الأمريكية دورًا كبيرًا.

* ولكن أين كان هذا العامل الدولي –الأمريكي تحديدًا- طوال تلك السنوات؟ ولماذا تحرك فجأة بل وانقلب مائة وثمانين درجة في تعامله مع النظام في الشمال فيما يخص هذه القضية عقب الحادي عشر من سبتمبر؟!

** أولاً العامل الدولي فيما يخص مشكلة السودان ليس جديدًا؛ فقد صار الشأن السوداني بفضل ما قام به النظام من انتهاكات لحقوق الإنسان ومحاولات فرض هوية بعينها يرفضها جزء كبير من شعب السودان في الجنوب –وذلك بقوة الدولة-، صار هذا الشأن محل اهتمام الاتحاد الأوروبي والكونجرس الأمريكي ومنظمات حقوق الإنسان والكنائس العالمية كذلك والصحافة العالمية؛ الأمر الذي أدى إلى دخول الأوروبيين والأمريكان كشركاء في مبادرة "الإيجاد"، ومع ذلك لم تتحرك المبادرة إلا بعدما أصبحت "مبادرة إيجاد دولي" تدعمها أمريكا بكل قوة.

 

* هذا الدعم الأمريكي القوي الذي حرك المبادرة مثار تساؤلات واستفسارات عديدة.. فإلام يرجع، من وجهة نظركم؟

** الأمريكان دخلوا كشركاء في مبادرة الإيجاد لأسباب عديدة:

أولاً: لقد جربت أمريكا أسلوب عزل النظام في محاولة لإسقاطه، وفشلت في برنامجها ذلك في الوقت الذي كانت تتصاعد فيه ضغوط الرأي العام الأمريكي على الإدارة الأمريكية للقيام بشيء ذي معنى في السودان؛ لذلك قامت أمريكا بتغيير سياستها لتصبح أقرب للسياسة الأوروبية تجاه قضية السودان التي تتلخص في محاولة التواصل مع النظام لإحداث التغيير المنشود عبر هذا التواصل، يضاف إلى ذلك أن أمريكا تشعر الآن أن سياساتها في المنطقة كلها فاشلة ومختلف عليها إلا في السودان، لماذا؟ لأنه في السودان نجد أن الطرفين (الحكومة والحركة الشعبية) يرحبان بدور أمريكي.

وثانيًا: القوى السياسية في السودان ترحب بهذا الدور أيضًا، بالإضافة إلى أن أمريكا اتخذت لسياساتها في السودان صفة أعقل منها في الخليج وسائر منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا كان منطقيًا أن يتعاظم الدور الأمريكي في السودان.

* قلتم: إن أمريكا اتخذت لسياساتها في السودان صفة العقلانية، كيف توصلتم إلى هذا الاستنتاج؟

** أولاً: اجتهدت أمريكا ألا تقفز فوق رؤوس القوى السياسية المختلفة والفاعلة في السودان؛ لذلك قامت بالاتصال بكل القوى وسمعت كافة وجهات النظر، سواء معارضة أو حاكمة أو طرفا أساسيا في المشكلة.

ثانيًا: لم تحاول أمريكا أن تنفرد بطرح الحل في السودان، وإنما اجتهدت أن تتعاون مع كافة القوى الدولية الأخرى "الاتحاد الأوروبي – الإيجاد"، كما أنها رفضت القفز على القوى الإقليمية، فأخذت معها "كينيا" كمؤسس لدول الإيجاد.

ثالثًا: اتخذت أمريكا موقفًا أكثر تعقلا وواقعية عندما جعلت مرجعية الحل في ماشاكوس ما طرح في إطار الأدب السياسي السوداني، وما سبق أن اتفقت عليه كافة القوى السياسية في السودان؛ لذلك كان ما حدث في ماشاكوس الأولى والثانية ناجحًا وليس غريبًا على الأدب السياسي السوداني.

* إذا كانت ماشاكوس قد نجحت.. فلماذا تضغط أمريكا بكل قوة؛ الأمر الذي وصل إلى دعوة أطراف الصراع لعقد اجتماعات في واشنطن يحضرها الرئيس "بوش" شخصيًا، ألا يدل ذلك على أن القول بنجاح مفاوضات ماشاكوس قول متعجل قليلاً؟

** أعتقد أن دعوة الأطراف للحوار في واشنطن لا يعبر عن فشل ماشاكوس أو احتمال انهيارها أو حتى استبدال "ماشاكوس 3" بواشنطن، ولكن في رأيي الدعوة تأتي في إطار إحساس واشنطن –على العكس- بنجاح المفاوضات، وقرب التوصل إلى اتفاق نهائي ينهي صراعا دام أكثر من 20 عامًا، وكلف السودانيين أكثر من مليوني قتيل. ومن هنا فالدعوة لتعظيم الدور الأمريكي في الحل وتسمينه أمام أنظار العالم الذي ينظر بعين الشك والريبة لسياسات أمريكا في المنطقة خاصة في الخليج والشرق الأوسط.. دعوة للقول بأن سياسة أمريكا في السودان ناجحة، وأوصلت إلى حل.  

* قلتم: إن ما حدث في ماشاكوس 1، 2 يعبر عن أدبيات الفكر السياسي السوداني، وما أجمعت عليه كافة القوى في السودان.. أيعني هذا أنكم تتفقون مع الحكومة حول رؤيتها في استبعاد القوى السياسية من المفاوضات أم ترون أن هذا الاستبعاد لم يسبب أي مشكلة على الإطلاق؟

** على الرغم من ترحيبنا بما حدث، واعتقادنا بأنه لم يأت بجديد خارج ما اتفقت عليه كافة القوى السياسية في السودان ونحن منهم؛ فإننا نعتقد أن هناك أشياء كثيرة تحتاج لمشاركة القوى السياسية السودانية ذات الوزن، ونحن الآن نعد ترتيبات لوضع "مذكرة" تغطي -من وجهة نظرنا- كل النقاط المختلفة التي نرى وجوب مناقشتها والوصول إلى حل فيها. وستعتبر هذه المذكرة بمثابة ورقة ضغط شعبي على طرفي التفاوض في ماشاكوس، سواء محطة التهوية في واشنطن أو الاجتماع الثالث المزمع عقده في يناير القادم في ماشاكوس، وأعتقد أننا بهذا سوف نشكل حضورًا حيًّا، وإن كنا شكلاً غائبين عن مائدة التفاوض.

* ما هي البنود الأساسية لهذه المذكرة الوطنية الشعبية؟

** أولاً: تقترح المذكرة في حالة حدوث اتفاق مبدئي بين الطرفين ألا يتم إقراره قبل مروره على منبر وطني جامع؛ لكي تتم مناقشته وإجازته حتى يصبح اتفاقًا وطنيًا جامعًا، وليس اتفاقًا ثنائيًا فقط.

ثانيًا: نحن نعتقد أن غياب العنصر العربي من جيراننا في هذه الاتفاقات خطأ كبير، وزيارتي الأخيرة للقاهرة كانت لمناقشة كيفية سد هذا النقص لتحقيق التوازن؛ فهناك –كما ترى- حضور غربي مكثف، ليس فقط على مستوى الدول، ولكن هناك عشرات من المنظمات والمؤسسات الفكرية والدراسية الغربية تقوم بتقديم الدراسات والمساهمات والمداخلات في غياب تام للعالم العربي والإسلامي.

هناك أيضًا حضور مكثف للكنائس العالمية التي نظمت نفسها بشكل يؤدي إلى التأثير على سير المحادثات، ونحن لا نستنكر هذا، ولكن نطالب بإحداث توازن؛ فللأسف الشديد الرأي العام العربي والإسلامي يكاد يكون غائبا تمامًا. لذلك فالمذكرة تطرح ضرورة إحداث مثل هذا التوازن. فعنصرَا الترشيد والتوازن هما الدعامتان الأساسيتان اللتان تقوم عليهما المذكرة؛ فحوار ثنائي واتفاق ثنائي يشكل خطرًا على الاتفاق نفسه؛ حيث يمكن لأي طرف من الطرفين التخلي عنه والتنكر له في أي وقت، كذلك استبعاد جيران السودان خاصة في الشمال (مصر وليبيا) يضر بالاتفاق؛ فنحن نريده اتفاقا شاملاً بمشاركة من كافة القوى السياسية الفاعلة في السودان، وبمباركة من كافة الدول والقوى الإقليمية التي ترتبط بالسودان بعلاقات تاريخية ومصيرية، ونعتقد أن هذا ممكن.

* إذا كنتم تعتقدون أنه بدون مصر هناك ضرر ومخاطر تحيط بالاتفاق، وتعتقدون وجود إجماع على ذلك.. فلماذا تم استبعاد مصر وأي دور عربي في هذا الاتفاق؟ ولماذا الإصرار على ذلك؟

** حقيقة لا يوجد عمل لاستبعاد مصر أو الدول العربية من المشاركة، ولكن هذا موقف مصري وقرار مصري؛ حيث ترفض مصر طرح فكرة تقرير المصير بشكل مبدئي في أي حوار أو اتفاق، وهذا ما دعاها منذ البداية للابتعاد عن الحوار. وفي رأينا هذه المسألة ورؤية مصر يجب أن تراجع.. لماذا؟ لأن قضية تقرير المصير مطلب إجماعي جنوبي، وقد صارت له هذه الأهمية بسبب تصرفات وقرارات وتوجهات النظام السوداني.

فالنظام قرر هوية السودان –الإسلامية- بشكل فوقي وحزبي دون مشاركة شعبية سواء من الشمال أو الجنوب؛ لذلك قال الجنوبيون: ما دام هذا هو السودان الذي يريده النظام؛ فنحن نريد مصيرًا آخر؛ ففكرة تقرير المصير لم تصبح محط إجماع الجنوبيين إلا كرد فعل لأطروحات النظام الحالي وما أسماه بالتوجه الحضاري الجديد، فقبل عام 1989 (أي قبل قيام النظام الحالي) كان يمكنك أن تسمع لدى هذا الشخص أو ذاك من الجنوبيين كلاما عن تقرير المصير، ولكنه كان حديثًا وفكرًا معزولاً وفرديا، ولم يتحول إلى هدف ورؤية وخيار جماعي إلا بعد عام 1993 على أثر التوجه الحضاري والسياسة التي أعلنها النظام الحالي.

الإخوة في مصر رأوا ألا يشاركوا في أي مفاوضات، أحد بنودها تقرير المصير. ونحن كنا نرى ضرورة المشاركة وقبول فكرة تقرير المصير إذا كنا نريد أن نتواصل في حوار فعال مع الجنوبيين؛ فلقد تولد لدينا شعور قوي بأنه لا توجد وسيلة لفرض أي حل على الجنوبيين سوى بالمفاوضات، والمفاوضات يجب أن تعتمد على خلفية قبول مبدأ تقرير المصير كمبدأ أساسي للحوار، وهذا هو السبب الرئيسي في ابتعاد مصر عن هذه المفاوضات، ونحن نسعى بكل قوة لإزالة سوء الفهم وعودة مصر والعرب للمشاركة في الحل.

* المسألة في رأيي لا تقتصر على إبعاد مصر، ولكن هناك من يريد فصل السودان عن محيطه العربي، وجعله إفريقيًا صرفًا ليقوم بدور ما لصالح أمريكا في منطقة القرن الإفريقي!

** الصراع حول هوية السودان حقيقة مؤكدة على الأرض، ونحن نعتقد بوجود جهات تسعى لأن يكون السودان موحدًا مؤفرقًا ومعلمنًا، هذه نزعة فكرية لدى بعض القوى في السودان، ولا شك أيضًا أنها تجد هوى لدى كثير من القوى الدولية، ولكن يظل ما يحدث صراعا حضاريا، وفي رأينا أن مقومات هذا الصراع الحضاري في صالح الهوية العربية والإسلامية بنسبة كبيرة جدًا شرط ألا تفرض نفسها على الآخرين بصورة تستبعد هويتهم، وفي رأينا أيضًا أن هذا ممكن جدًا الآن.

* كيف يكون ممكنًا وهناك من يسعى مدعومًا دوليًا إلى أفرقة السودان في غيبة تامة للوجود العربي؟

** أعتقد أن الوجود الثقافي العربي قوي ومكثف ولا يُخشى عليه، وكذلك الوجود الحضاري الإسلامي، ولكن غلبة هذا الوجود ونجاحه متوقف على العدالة مع الآخرين والاعتراف بهم وثقافاتهم وليس استبعادهم وظلمهم كما فعل النظام الحالي. نحن نعتقد أننا بصدد صورة من التوافق والتعايش بين هذه الثقافات جميعًا وهذه الأديان، ونعتقد أن هذا ممكن. صحيح أن هناك بعض الجهات ترى أن مثل هذا النظام بسياساته الطاردة والاستبعادية التي استأصلت وحاربت الآخرين يجب مواجهته –كرد فعل- بتأسيس سودان جديد موحد ومؤفرق ومعلمن، ولكن الذي سيبقى سودان عربي ذو هوية عربية وثقافة عربية ضمن اعتراف بالآخر وسياسة ثقافية تحترم التعايش بين الأديان، وبين الثقافات المتعددة في ظل وحدة وطنية.

 

* ولكن لماذا هذا التفاؤل بأن الهوية العربية هي التي ستنتصر في ظل اعتراف واحترام للآخر؟

** قلت لك: إن ما حدث هو تراكم ونتيجة لعصر الاستقطاب والاستبعاد لهويات وثقافات بعينها من قبل نظام طرح –بالقوة- هوية وثقافة بعينها، وراح يفرضها قسرًا وبشكل فوقي على الآخرين، ورد الفعل هذا تفكير قاصر سيهدم ويزول في إطار سودان موحد متعدد الثقافات، وستمثل ساعتها كل ثقافة –بشكل ديمقراطي- حسب وزنها المادي والمعنوي. فنحن نلمس استعدادًا أكبر لسلام عادل في السودان واحتمالات كبرى لتحول ديمقراطي حقيقي في السودان ينتهي بانتخابات عامة حرة يقرر فيها الشعب السوداني من يحكمه، حتى مشكلة تقرير المصير التي يقوم عليها الاتفاق، نحن نعتقد أن الجنوبيين في أغلبية كبيرة منهم سيصوتون للوحدة بشرط أن تتحقق أشياء كثيرة في الفترة الانتقالية، على رأسها إزالة المظالم والغبن التي ظل يشكو منها الجنوبيون لفترات طويلة.

ولذلك فإن التحدي الأساسي أمام ماشاكوس هو كيف نجعل "السودان الانتقالي" سودانًا عادلاً يحس فيه السودانيون جميعًا بأنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات؟ هذا تحدٍّ كبير؛ فكثير من الجنوبيين يقولون: إذا أصبح السودان دولة نحن فيها مواطنون من الدرجة الأولى كالآخرين فنحن مع الوحدة، أما إذا كنا سنتحول إلى مواطنين من الدرجة الثانية فنحن مع الانفصال، التحدي الموجود أمامنا هو كيف يشعر الجنوبيون في الفترة الانتقالية بأنهم يعيشون في وطن واحد عادل، هذا في رأيي يلخص الموقف من السلام في السودان.

* ولكن هناك من يقول: إن القوى الخارجية التي ترعى الاتفاق تفضل أفرقة السودان عن عربنته؟

** أعتقد أن كثيرًا جدًا من القوى الخارجية تفضل ذلك. على سبيل المثال إسرائيل وكل اللوبي الصهيوني المنتشر في العالم وفي أمريكا وكذلك اليمين الأوروبي والأمريكي، ولكن يجب ألا نغفل وجود جهات أخرى كثيرة تدرك أن هذا مستحيل، وتتطلع للحصول على حقوق المسيحيين وحقوق الجنوبيين المغالية. فرغم أن اليمين الأمريكي يفضل سودانًا مؤفرقًا ومعلمنًا فالعقلاء والأكثر وعيًا يدركون أن هذا الحل أو هذا التوجه إذا تم إقراره فسيأتي برد فعل قوي، ولن يكون مقبولاً لا عربيًا ولا إسلاميًا. ولذلك فهم يرون أن الأفضل وجود حلول يتفق عليها تحترم كل الأديان وكل الثقافات، وتمنع الإكراه في الدين، وتقيم وحدة السودان على أساس حقوق المواطنة، هذه الأغلبية العاقلة تدرك أن أي تفكير في إقصاء الهوية العربية الإسلامية تفكير أحمق، ولن يؤدي إلى نتيجة ناجحة.

* هل تعتقدون أن النظام من الممكن أن يسير هذا الشوط إلى نهايته.. هناك من يشكك في ذلك، خاصة أن رأس النظام يعلن كل يوم أنه ضد قيام دولة علمانية في السودان، والمشروع الذي تقدمه (الإيجاد) لا يخرج عن هذا المفهوم.. فما رأيك؟

** أولاً: الرئيس السوداني يُسأل عن تصريحاته، أما أنا فأقول لك: إن ما أراه الآن وما هو سائد بشكل عملي أنه لا أحد يتحدث عن سلام علماني أو دولة علمانية، نحن نتكلم عن حقوق المواطنة والتحول الديمقراطي، كيف يمكن تنظيم هذه الأمور بحيث يشعر المواطن بالمساواة، أما مقولات مثل سودان علماني أو ثيوقراطي فليس لها معنى الآن. نحن نبحث عن أوضاع عملية على الأرض، ولكن الذين يتحدثون عن شعارات فهم مسئولون عنها، ولكن ما يحدث هو اتفاق يضمن حقوق المواطنة للجميع والاعتراف بالتعددية الدينية.

أما بالنسبة للشق الأول من سؤالك فليس هناك نظام في العالم يريد أن يقدم تنازلات، خاصة عندما تكون هذه التنازلات متعلقة بالحريات والديمقراطية، ولكن الأمور هنا تدخل ضمن تطورات بعينها عالمية وإقليمية ومحلية هي التي تفرض مثل هذه التغييرات.

وعلى سبيل المثال فالنظام يعتقد أنه سيفوز باكتساح في أي انتخابات نظيفة؛ لذلك فهو يحضر نفسه جيدًا لذلك، ويسير في خطى ستنتهي إلى إجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة.

* هناك من يعتقد أن خروجكم من الجبهة أضعفها، وفي نفس الوقت قوى من النظام، وأحدث انشقاقات داخل حزب الأمة.. فما رأيك في هذا الكلام؟

** بداية ليس خروجنا من الجبهة هو الذي أضعفها، ولكن عدم فهمها للمتغيرات الجديدة هو الذي أحدث هذا الضعف، فما كنا نطالب به كمعارضة هو ما يحدث الآن، فلماذا نعارضه إذن؟ ولماذا نبتعد عنه ولا نكون فاعلين بالدرجة التي تحدث ما نأمل من متغيرات عليه؟ هذا من ناحية. أما قصة الانشقاقات فلا يوجد في حزب الأمة انشقاق، وإنما انسلاخ بسيط في السطح. وحزب الأمة سترونه في السادس والعشرين من يناير القادم وهو يعقد مؤتمره العام قويًا، وستشهدون ميلاد حزب سيكون من أقوى الأحزاب في الشرق الأوسط.

وبخصوص مقولة: إن خروجنا قوى النظام، فالذي يقول هذا يتجاهل أن النظام رضخ لكل ما كنا نطالب نحن به، لقد أصبح برنامج المعارضة جزءا من برنامج الحياة في السودان، فهل هذا انتصار للنظام أم انتصار لنا ولكل ما كنا نطالب به؟ فكيف يقولون: إننا لم نحقق شيئًا بينما النظام هو الذي استفاد؟ هذا كلام بعيد عن الحقيقة.

*مع كل هذا التفاؤل أليس من المطروح حدوث انقلاب مفاجئ على ما حدث ويحدث من توجه نحو السلام كما حدث بعد احتلال "توريت" مثلاً من إيقاف للمفاوضات؟!

** أكاد أؤكد أن الديمقراطية الجديدة بدأت بالفعل الآن في السودان، صحيح لم تكتمل بعد، لكن إرهاصاتها بدأت في الصحافة وفي الجامعات وفي أشكال عديدة.. ونعتقد أن ما سيحدث ليس انقلابا على هذا، ولكن تقنين لهذا الزحف الديمقراطي وصولاً للقمة في انتخابات عامة حرة. بالطبع يمكن لأي طرف من الأطراف في أي مرحلة من المراحل أن يرتكب أخطاء، ولكن هذه الأخطاء لن تنال من التوجه العام الديمقراطي بقدر ما ستنال ممن يرتكب هذا الخطأ، لماذا؟ لأن التوجه الإستراتيجي الدولي فيما يخص الشأن السوداني والتوجه الشعبي داخل السودان نحو الديمقراطية؛ لذلك فلن يستطيع أحد أن ينقلب عليه.

وأظنك سمعت عن تقرير هيئة الأمم المتحدة للتنمية في العالم العربي 2002، والكلام عن ضرورة التحول الديمقراطي في العالم العربي كله، وأظنك سمعت أيضًا عن الشراكة الجديدة من أجل التنمية في إفريقيا والأسس الثلاثة الضرورية (السلام، التنمية، الديمقراطية)، وأظنك ترى في العالم الإسلامي نفسه ظاهرة القوى الإسلامية الجديدة المعتدلة والديمقراطية وكيف يشجعها الشارع الإسلامي وينجذب بشدة نحوها.. نحن إذن أمام مرحلة جديدة في الإطار العربي والإسلامي والإفريقي، القاسم المشترك بينها جميعًا هو التطلع نحو الديمقراطية، ولا أعتقد أن هناك جهة تستطيع أن توقف هذا التيار.

السلطة للشعب

* ولا حتى المشاكل الكبرى والمعقدة المتعلقة بالمرحلة النهائية في ماشاكوس والخاصة بتوزيع الثروة والسلطة وقضايا الحدود!

** أنا لا أرى أن تلك مشاكل كبرى أو معقدة، موضوع الثروة موضوع سهل جدًا وكذا موضوع السلطة، فأنا لا أرى أن يكون هناك أحد مسئول عن توزيع السلطة؛ فالسلطة ستكون في ظل النظام الديمقراطي للشعب يمنحها لمن يشاء ويسلبها في أي وقت منه إذا أساء استخدامها. فلا أحد يملك وصاية على الشعب حتى يقول: أنا سأوزع السلطة بهذه الطريقة أو تلك، هذا كلام في رأيي مفتعل ولا معنى له.

* أنا أتحدث عن الفترة الانتقالية، وليس بعد إجراء انتخابات عامة حرة وديمقراطية في سودان موحد!

** كل هذه القضايا من الممكن الاتفاق بشأنها حتى في الفترة الانتقالية، وبالمناسبة الفترة الانتقالية نفسها من الممكن اختصارها إلى عام أو عامين؛ بمعنى أن الفترة الانتقالية لا تحتاج أن تكون كلها تحت التوزيع التحكمي للسلطة، يمكن في ظرف عام أو عامين الاتفاق على إجراء انتخابات عامة حرة، وساعتها سيكون توزيع السلطة عن طريق الاحتكام للشعب.

أما مسألة الثروة فلا يوجد بها مشكلة، ونحن لسنا أول بلد في العالم به ثروة، وهناك سوابق عديدة سنستفيد منها، وستكون هناك قاعدة ما بين المركزي والإقليمي، لا توجد صعوبة على الإطلاق، المهم أن الحرب تم إيقافها، وتأكد أن هذا الأسلوب لا يوصل إلى أي نتائج، ثم إننا لا نعيش بمفردنا في العالم، وقضية الثروة والسلطة كانت مطروحة ضمن الفرق والقوى السياسية المتمادية في أكثر من مكان في العالم (أنجولا – لبنان – إفريقيا الوسطى…) أماكن كثيرة في العالم اكتشفت أن الحل ليس في استخدام السلاح، وتوصلت إلى بدائل كثيرة.. لماذا نحن يُكتب علينا الحماقة الأبدية؟! هذا غير معقول.

تهميش

* وماذا عن المناطق الأخرى المهمة التي تماثل مشاكلها مشاكل الجنوب؛ مثل غرب السودان وجبال النوبا؟ هذه المناطق ماذا سيكون وضعها في ظل اتفاق ثنائي مثل ماشاكوس.. ألا يطرح هذا إمكانية اشتعال الحرب مرة أخرى في هذه الأماكن بدلاً من الجنوب؟!

** نحن نسعى لكي تراعي الاتفاقيات الموجودة حاليًا هذه المشاكل والمظالم الموجودة في مناطق أخرى من السودان؛ بحيث يخرج الاتفاق -كما قلت لك- شاملا يخاطب قضايا السودان مرة واحدة وبشكل شامل، ولا يقف عند حد مشكلة الحرب الحالية والصراع بين القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي. وأعتقد أن هذا ما سنقدمه كقوى سياسية من حلول، ولحسن الحظ فإن في الفترة الماضية طفت كل مشاكل السودان على السطح، ولهذا فإن تحديا آخر مطروحا علينا وهو إدراج كل هذه المشاكل في حل شامل يخاطب الأمة السودانية جمعاء.

* أنتم متفائلون إلى أقصى حد، وهذا شيء رائع وجيد، ولكن الواقع شيء مختلف.. فهل ستسمح الظروف الدولية والتوجهات والأهداف الخاصة برعاة عملية السلام.. كذا ظروف الجنوبيين أنفسهم وتطلعات الحكومة في الشمال والوضع الإقليمي.. هل سيمسح كل هذا بتحقيق ما أشرتم إليه؟

** أنتم تعرفون أن لدينا مشاكل كثيرة، ولكن صدقني هي مشاكل بسيطة إذا ما قورنت بمشاكل أخرى يمر بها بعض جيراننا، ولكن مشاكلنا نحن –لظروف خاصة- طفت على السطح، وأدت إلى ما أدت إليه من مشاكل وعذابات عشناها كاملة. والآن يوجد استعداد حقيقي لفتح صفحة جديدة.. المشاكل كلها –صدقني- قابلة للحل طالما بات هناك اقتناع حقيقي بالتخلي عن الحرب وسيلة لحلها، الشعب السوداني بإمكاناته البشرية والمادية الهائلة هو الذي يدفعني للتفاؤل، كذا الظروف المواتية عالميًا وإقليميًا –كما أوضحت لك- تدعو للتفاؤل، ثم دعني أوضح لك شيئا: لقد قلنا ونقول ببرنامج محدد للحل منذ 15 عاما قادما مللنا تكراره والنضال في سبيل إقناع الآخرين به، وها هو الآن بعد 15 عاما بات يتردد على كل لسان، وبات قاب قوسين أو أدنى من التحقق، أفلا يدعوني هذا إلى التفاؤل؟ لقد عارضنا مواقف أمريكا المتعلقة تجاه قضية السودان من قبل، ونجحنا الآن في أن تغير أمريكا من موقفها، وتطرح وتتبنى ما كنا نطرحه ونتبناه، أليس هذا نجاحًا يضاف كعامل من عوامل تفاؤلنا، لهذا فنحن عندما نتحدث عن المستقبل لا نتحدث عنه بوصفنا قُراء كفّ، ولكن نتحدث بوصفنا قراء واقع سياسي لتحقيق ما يحلم به السودانيون، وسوف يتحقق اليوم أو غدا.

البترول

*ما هو دور الاكتشافات البترولية في السودان في كل ما يحدث؟

** البترول ظهر في السودان في شمال الجنوب وجنوب الشمال، إذن البترول يشكل مصلحة وحدوية للسودان، وهناك بالطبع جهات كثيرة خارجية تفكر الآن في أن يكون لها نصيب من هذا البترول، وهذا سيزيد من اهتمام العالم بالسودان، وهذا كله يصب في مصلحة السودانيين، وأعتقد أن البترول يمكن أن يكون مصدر وفاق عام إذا تم التعامل معه بعدالة.

* كيف ترى الساحة السياسية الأحزاب والقوى السياسية في الفترة الانتقالية الممهدة للانتخابات العامة؟

** الأحزاب السياسية مرت بنكبة كبيرة في الفترات الماضية، وهذا كان مخططا من النظام القائم؛ فالنظام كان له مصلحة في تحجيم دور الأحزاب، ولذلك فالأحزاب والقوى السياسية سوف تحتاج إلى مجهود كبير في الفترة الانتقالية لكي تتجاوز هذه النكبات. وأعتقد أن هذا ممكن، وبالطبع أعتقد أن الأحزاب القديمة ستجدد نفسها، كما ستولد أحزاب جديدة، وسيكون هناك عدد كبير من الأحزاب في الفترة الانتقالية، لكن الانتخابات ستقوم بعملية تصفية كبرى، وسوف يتم في النهاية اختصار لعدد هذه الأحزاب على القوى السياسية الحية والفاعلة ذات الشعبية في السودان.

* هل هناك فرصة أمام القوى والأحزاب الإسلامية في ظل الزخم الجديد في الفترة الانتقالية أن تتواجد في الانتخابات بشكل قوي؟

** الفرصة الإسلامية لديها فرصة وحيدة مشروطة بعمل "بريسترويكا" داخلية؛ أي إعادة هيكلة وإعادة تصحيح للأخطاء الكبرى التي ارتكبتها في الفترة الماضية، ونحن في حزب الأمة نعتبر أنفسنا من القوى الإسلامية المعتدلة، كما نعتبر أنفسنا الأقرب لنبض الشارع، كما أننا اتخذنا الموقف الصحيح من ضرورة حل ما لوقف الحرب قبل كافة هذه الأحزاب بمدة طويلة، وأعتقد بضرورة تقديم تنازلات حقيقية؛ لذلك فنحن تحدثنا عن إسلام يتفق مع الديمقراطية، ونستطيع القول الآن: إن كل ما قلناه يلقى الآن تجاوبا كبيرا من الشارع السوداني بعدما عانى من التجربة السابقة.

* أخيرا.. ألا تتوقع حدوث انهيار أو فوضى في الفترة الانتقالية نتيجة لوجود هذا الزخم السياسي الكثيف، بالإضافة إلى عودة المهاجرين ومطالبة البعض بحقوقهم التي تم الاعتداء عليها؟

** لا أعتقد حدوث ذلك؛ فالسودان يحتوي على تركيبات لولا وجودها لتقطع السودان إربا؛ فقد تحملت هذه التركيبات قهر النميري وعذاباته، واستطاعت هذه القوى السودانية وهذه التركيبات أن تحيا على رغم ما مرت به، وأعتقد أن هذه البنيات والتركيبات كفيلة بأن تشكل "عظم الظهر" للسودان الذي يمنعه من الدخول في فوضى الفترات الانتقالية.