الخميس 28 مارس 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

في مقال لموقع «فالير أكتويل» الفرنسي الشهير.. عبدالرحيم علي: السد الإثيوبي يُهدد بإشعال أفريقيا

نشر
عبد الرحيم علي

• على أوروبا وأمريكا التدخل قبل فوات الأوان.. وإبعاد شبح الحرب مسئولية العالم كله

 

• أديس أبابا تسعى لاستخدام المياه كأداة اقتصادية وإستراتيجية لتركيع وإفقار المنطقة

 

• العالم المتحضر مطالب بالإشراف على مفاوضات جادة تجبر إثيوبيا على الرضوخ لصوت العقل

 

• الإصرار على التعنت يؤدي إلى اندلاع حرب كبرى تضر بالسلم العالمي بشكل عام

 

• إثيوبيا تتجاهل عمدًا اتفاقية 1902 الحدودية التي تلزمها بعدم إقامة منشآت على النيل الأزرق

 

• الانفجار الاجتماعي والأمني الناتج عن المجاعات والضغط المائي يؤدي إلى نزوح الملايين نحو الشمال

 

نشر موقع «فالير اكتويل» الفرنسى الشهير، مقالًا؛ كتبه خصيصًا للموقع الكاتب الصحفي عبدالرحيم علي رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس «CEMO».

وقال عبدالرحيم علي، في مقاله: إن إثيوبيا تجاوزت الخط الأحمر عندما قررت بدء المرحلة الثانية لملء خزان سد النهضة المقرر تنفيذه في يوليو المقبل بما يؤدي لكوارث بالمنطقة.

وأكد أنه «يجب على العالم المتحضر في أوروبا وأمريكا أن يتدخل سريعًا بهدف إيقاف عملية الملء الثانى للسد والإشراف على مفاوضات جادة تجبر إثيوبيا على الرضوخ لصوت العقل قبل فوات الأوان».
 

وأضاف عبدالرحيم علي، أنه «منذ فترة طويلة سيطرت التوترات حول التحكم في المياه على ملف الجغرافيا السياسية، ففى كل مرة يتوصل فيها المسؤولون إلى إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم يظهر التصرف بأنانية بما لا يؤدى مطلقًا إلى نتائج إيجابية بين الطرفين، مضيفًا أن إثيوبيا تدفع باتجاه حرب قد تدمر أفريقيا بالكامل وتهدد السلم العالمى بأكمله.

وإلى نص المقال:

في الوقت الذى تُصر فيه إثيوبيا على المضي قدمًا في خطتها لبدء المرحلة الثانية لملء السد، حذرت مصر من اتخاذ «أبابا» لخطوات أحادية فيما يتعلق بتلك الأزمة طالبة من المجتمع الدولي؛ خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التدخل لإنهاء تلك الأزمة التي قد تتسبب في اندلاع حرب كبرى في المنطقة تُضر بالسلم العالمي بشكل عام.

 

ومنذ فترة طويلة، سيطرت التوترات حول التحكم في المياه على ملف الجغرافيا السياسية. ففي كل مرة يتوصل فيها المسؤولون إلى إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم إلا أن التصرف بأنانية لا يؤدى مطلقًا إلى نتائج إيجابية بين الطرفين. للأسف، تلوح في الأفق حرب ذات أبعاد لا حصر لها تشمل مصر والسودان من ناحية وإثيوبيا من ناحية أخرى.. ولا ننسى أنه في إطار لعبة التحالفات بين الدول، هناك 8 دول أفريقية أخرى لا ترى تلك التوترات بل تكاد تنكرها تمامًا.

 

لسنوات عديدة، لم تستمع إثيوبيا إلى جيرانها، بما في ذلك أكبر دولة في المنطقة، مصر - التى تعتمد على النيل منذ العصور القديمة.. وأصرت إثيوبيا على موقفها من خلال مواصلة مشروع السد دون مراعاة الاحتياجات الحيوية ومصالح شركائها القلقين من العواقب الوخيمة من تخفيض حصتهم من مياه النيل.

 

 لقد تجاوزت أديس أبابا الخط الأحمر الذى يؤدى إلى كوارث عندما قررت بدء المرحلة الثانية لملء خزان سد النهضة المقرر تنفيذه في يوليو المقبل. حقيقة حذرت مصر مرارًا وتكرارًا من تلك الإجراءات الأحادية، داعية المجتمع الدولي؛ خاصة الولايات المتحدة، إلى محاولة تجنب الحرب.
 

وقد بدأت الأزمة في التكشف منذ أبريل 2011 حينما اتخذت «أديس أبابا» قرارًا أحاديًّا يقضى باستخدام مياه النيل الأزرق في تغذية سد مائى عملاق تحت ذريعة توليد الكهرباء في أفريقيا، بينما هى تسعى لتغيير قواعد اللعبة فيما يتعلق بقضية المياه وتدشينها باعتبارها سلعة قابلة للبيع.
 

وحذرت «القاهرة» منذ عدة سنوات من أن هذا المشروع الذى لم يدرس جيدًا ولم تدرس أبعاده سيقلل من مياه النيل بنسبة 25% وهو ما سيكون له تأثيره على الزراعة والأمن الغذائى المصري.

خاصة أن النيل يعتبر «شريان الحياة بالنسبة للمصريين» فهو المصدر الوحيد للمياه.

 

فقد أقام المصرى القديم منذ سبعة آلاف عام حضارته على ضفاف النيل، وحفر الترع والقناطر والسدود، بل وتم توصيل مياه النيل إلى داخل المعابد، وتوسعت مصر في الزراعة والتعدين والتجارة، اعتمادًا على حصتها من المياه البالغة 55.5 مليار متر مكعب في العام والتى لم تتغير منذ اتفاقية 1959، على الرغم من بلوغ التعداد السكانى في مصر 105 ملايين نسمة ( كان تعداد مصر 30 مليون نسمة وقت توقيع الاتفاقية) أى نحو 500 متر مكعب في السنة للفرد الواحد، بما يعادل نصف الحد الأدنى للفقر المائي الذي حدده البنك الدولي.

 

فإذا أجرينا مقارنة بسيطة نجد أن إثيوبيا يسقط على أرضها ألف مليار متر مكعب من الأمطار سنويًّا ويتوفر بها أكثر من اثنى عشر نهرًا؛ إضافة إلى النيل الأزرق والسوباط وعطبرة، وتستغل أكثر من 6 سدود في توليد الكهرباء وفي الزراعة.

 

وهو ما يجعل إثيوبيا هى الدولة المارقة في تلك الأزمة وليس مصر.. هذه الأزمة التى تضر بمصالح حيوية لمصر وشعبها. وخلال دراسة لدارتموث كولدج، فإن 35% من سكان حوض النيل سيعانون من جفاف مائى من الآن وحتى 2040 ويمثل هذا السد تهديدًا وجوديًّا لتلك الدول.

 

المفاوضات والتعنت الإثيوبي:

حقيقة تحاول الأمم المتحدة والولايات المتحدة منذ أسابيع تهدئة الوضع بين جميع الأطراف ودفع الجانبين للتوصل إلى اتفاق. وقامت واشنطن بتعيين جيفرى فيلتمان مبعوثًا خاصًّا لمنطقة القرن الأفريقي.

 

وتنصب المفاوضات الحالية الخاصة بالسد بين مصر والسودان وإثيوبيا حول عمليتى الملء والتشغيل، طبقًا لإعلان المبادئ الموقع بين الأطراف الثلاثة عام 2015، بينما تحاول إثيوبيا جر المفاوضات نحو اتفاقات سابقة لم تكن هى طرفًا فيها كاتفاقيتي عام 1929 وعام 1959 اللتين تنظمان التعاون بين دول حوض النيل فيما يتعلق باستخدام مياه النهر.

 

وتتجاهل عمدًا اتفاقية 1902 الحدودية التى تلزمها بعدم إقامة أي منشآت على النيل الأزرق، أو إقليم شنقول الذى كان متنازعًا عليه وتنازلت عنه السودان بموجب تلك الاتفاقية شريطة ألا يقام على تلك المنطقة بالكامل أي منشآت أو سدود تضر بالسودان، الذى كان يتبع الحكومة المصرية آنذاك.

 

الأمر الذى يوضح مدى التناقض وعدم الاتساق في الموقف الإثيوبى، الذى يتحدث عن رفض اتفاقيات لا علاقة له بها، وينكر ويتنصل من اتفاقية ملزمة له.
 

إن إثيوبيا وهى تسعى إلى رفع القدرة التخزينية للسد من 14 مليار متر مكعب إلى 74 مليار متر مكعب دون وجود جدوى حقيقية لذلك في توليد الكهرباء، وبما يعكس الشكوك في عدم حسن النوايا لاستخدام السد في أغراض أخرى بخلاف توليد الكهرباء، على عكس ما تتشدق به حول الاستخدام المنصف والعادل للمياه.

 

إن الاستخدام المُنصف الذي ينص عليه اتفاق المبادئ في البند رقم 4 يعنى تحقيق الفائدة لإثيوبيا من خلال توليد الكهرباء، وليس اقتطاع حصة من المياه، لأن هذا يتعارض تمامًا مع البند رقم 3 من ذات الإعلان الذى ينص على عدم إلحاق الضرر بدول المصب (مصر والسودان).
 

كما أن موضوع تقاسم المياه الذي تتحدث عنه إثيوبيا، لا علاقة له بمفاوضات السد، ولم تطرحه إثيوبيا إلا في العام الماضى 2020 عندما انتقل التفاوض لرعاية الاتحاد الأفريقي، وهو موضوع خارج نطاق إعلان المبادئ الموقع بين كل الأطراف في عام 2015، بل ويؤدى إلى نقضه وفسخه بالكامل، لأنه ينسف البند رقم 3 القاضي بعدم إلحاق الضرر بدول المصب.

إن كل ما يصدر عن إثيوبيا من كذب وتضليل ولي لعنق الحقيقة، مصدره هو التصور الإثيوبى بملكية الأنهار التى تنبع من الهضبة الإثيوبية، وسعيهم لاستخدام ذلك كأداة اقتصادية وإستراتيجية لتركيع وإفقار كل المنطقة المحيطة بهم بمنع المياه عنها.

 

ثم توظيف كل ذلك في إحداث خلل في التوازنات الإستراتيجية القائمة في القرن الأفريقي وحوض النيل وإحراز التفوق لصالح إثيوبيا، تمهيدًا لبناء إمبراطوريتهم بالتوسع في أراضى السودان وغيره من الدول المحيطة بهم، وإعادة احتلال إريتريا للنفاذ إلى البحر والتحول إلى دولة محورية لا تكتفي بالتحكم في الأنهار وإنما أيضًا في ملتقى البحار ومدخل البحر الأحمر.

 

ولذلك ترفض إثيوبيا بشدة أى اتفاق مُلزم حول السد، لكى تكون مطلقة السراح في تنفيذ مخططاتها التى لا تستطيع الإفصاح عنها حاليًا، وإن كانت تفعل ذلك جزئيًا بما يتناسب مع المرحلة التى قطعتها في التنفيذ.
 

شبح الحرب:

ولكن إثيوبيا تعرف أن أي خرق لاتفاق إعلان المبادئ الموقع بين الأطراف كافة في عام 2015، سوف يعرضها لمشكلات كبيرة، حيث يحق لمصر حينها اتخاذ ما تراه من إجراءات تكفل لها عدم المساس بحصتها من مياه النيل بما في ذلك استخدام القوة أو إعلان الحرب.

 

ورغم كل ذلك، أريد أن أؤكد حقيقة مهمة أنه في حال اندلاع حرب بين الأفارقة، فإن الغرب، وخاصة جنوب أوروبا، وأيضًا الولايات المتحدة، التي  تشعر بالقلق من ظهور الجهاد والقرصنة مجددًا في القرن الأفريقي، لهم مصلحة حقيقية في تكوين تحالف قوي مع مصر؛ التى تعتبر الحليف الرئيسى لفرنسا والولايات المتحدة في المنطقة

يجب على الغرب أن يدفع إثيوبيا إلى التعقل في تصرفاتها؛ ففي تلك المنطقة من العالم، والتى تبدأ من جيبوتي، والتي تحتوي على قواعد للقوات الغربية، مرورًا بمضيق باب المندب، والذي تمر من خلاله ناقلات الحاويات، بين أفريقيا والخليج.. وتمتد تلك المنطقة أيضًا لتصل إلى قناة السويس مرورًا بالبحر الأحمر وجميع الدول. في الحقيقة، تواجه دول حوض النيل مخاطر أمنية وإرهابية، لم يسمع بها من قبل، تهدد المصالح الإستراتيجية والاقتصادية.
 

عندما نرى إلى أي مدى تسبب أسبوع واحد من سد قناة السويس، في مارس 2021، في ذعر الاقتصاد العالمي، أو كيف تسببت حالة عدم الاستقرار في ليبيا، التى كان يسيطر عليها القذافى، في انتشار الفصائل الجهادية في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والساحل.. هنا يمكننا أن نتخيل أهمية الجيوسياسية.

 

لا شك أن الانفجارين الاجتماعي والأمني الناتجين من المجاعات، والضغط المائي، وتدمير السدود يؤديان منطقيًّا إلى عملية نزوح جماعي.. ليتجه الملايين من الأشخاص التعساء نحو الشمال، أو تقوم تركيا وأردوغان باستغلال هؤلاء المهربين والإرهابيين الفارين من ليبيا.

 

في الحقيقة لا يمكن استبعاد تلك السيناريوهات الأكثر سوادًا. وأود أن أوضح أن السلام لا يزال حتى الآن في تلك المنطقة مكتسبًا هشًا وضعيفًا.

 

لذلك يجب على العالم المتحضر هنا في أوروبا وأمريكا أن يتدخل سريعًا بهدف إيقاف عملية الملء الثانى للسد والإشراف على مفاوضات جادة تجبر إثيوبيا على الرضوخ لصوت العقل قبل فوات الأوان.