الأربعاء 24 أبريل 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: لا تَصالح

نُشر هذا المقال بموقع البوابة نيوز يوم الإثنين 12/ديسمبر/2016

نشر
عبد الرحيم علي

كان واضحًا من حجم وشكل وبشاعة حادث تفجير الكنيسة البطرسية أن هناك من يريد توصيل رسالة، مفادها إما الصلح وإما الدخول فى دائرة تلك المواجهات اللعينة.

كانت وما زالت تلك خطة الجماعة الإرهابية منذ الثالث من يوليو ٢٠١٣ عندما أعلن المشير عبدالفتاح السيسى نهاية حكم الإخوان وعزل رئيسهم مرسى العياط من الحكم.

الضغط ثم الضغط على النظام الجديد بكل السبل حتى يرضخ للجلوس على طاولة المفاوضات، شرحنا ذلك فى عدة مقالات صحفية وحلقات تليفزيونية سابقة.

والآن وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات من المواجهة التى راح ضحيتها العشرات من أبناء الوطن من رجال الجيش والشرطة والمدنيين من الأقباط والمسلمين، لم تمل تلك الجماعة الإرهابية وحلفاؤها من سلوك نفس الخطوات من أجل تصالح اضطرارى يجبرون فيه الدولة على تقديم نصف السلطة لهم تمهيدا لعودتهم مرة أخرى إلى المشهد.

ونقول لهم بكل وضوح: ريحوا أنفسكم، فقد حسم الشعب المصرى خياره منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣، ووضع الجماعة فى نصابها الطبيعى كجماعة إرهابية لا مكان لها سياسيًا على أرض مصر المحروسة. 

لقد بنى التنظيم الإرهابى خطته، منذ اللحظة الأولى، لحظة سقوط نظامهم، على هذا الخيار، خيار المصالحة واقتسام السلطة، وكل الضغوط التى كانوا يمارسونها عبر إرهابهم للدولة والمجتمع، كانت تبدأ وتنتهى فى خدمة ذلك الغرض، تركيع المجتمع والدولة للقبول بالمصالحة.

ولم تتوقف المحاولات، داخليًا كانت أم خارجيًا، لدعم هذا المشروع، فداخليًا بدأت بأطروحات ومبادرات طارق البشرى وسليم العوا وفهمى هويدى، وعدد لا بأس به من حواريى قطر وتركيا والتنظيم الإرهابى، وآخرها كانت تصريحات الإرهابى إبراهيم منير الأمين العام للتنظيم الدولى للإرهابية المقيم فى لندن، قبل أسبوعين.

ودوليًا طرحت أكثر من دولة مبادرة للمصالحة وتحدث أكثر من مسئول مع الحكومة المصرية حول ذلك الملف، ومُورست ضغوط ضخمة على الحكومة، وعدد من الدول العربية للدفع بذلك الاتجاه، كان آخرها ما حمله الرئيس الأمريكى باراك أوباما أثناء زيارته للمملكة العربية السعودية، يوم ٢٧ يناير ٢٠١٥ أثناء تقديم واجب العزاء فى الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز. أوباما لم يكن معنيًا بتقديم واجب العزاء، حقيقة، بقدر عنايته بتوصيل رسالة واضحة للقيادة السعودية الجديدة ممثلة فى الملك سلمان بن عبدالعزيز حول رؤية واشنطن لما يحدث فى مصر.

أشار أوباما بوضوح، متحدثًا عن تجربة الانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٢ وما أفرزته، من وصول لرئيس إخوانى إلى سدة السلطة فى مصر، ثم عرج على المعالجات التى تمت عقب تلك الانتخابات، معتبرًا إياها نوعًا من الإقصاء لقوى سياسية بعينها، فى إشارة للإخوان، بشكل غير ديمقراطى. الغريب أن أوباما تجاهل ـ بشكل متعمد كعادته- خروج الملايين من الشعب المصرى فى ٣٠ يونيو رافضين حكم الإخوان.

وخرج أوباما بنتيجة منطقية لرؤية الإدارة الأمريكية تلك، تتلخص فى ضرورة فتح حوار مصرى - مصرى، للخروج من هذا المأزق تدعمه الإدارة السعودية الجديدة. 

لم يتجاهل أوباما فقط ثورة الشعب المصرى فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ وما نتج عنها من نظام جديد كلية، ولكنه تجاهل أيضا تلك الدماء الزكية التى سالت ولم تزل على طول البلاد وعرضها، من قبل العمليات الإرهابية التى قام بها التنظيم الإرهابى وحلفاؤه، وآخرها كانن دماء شهداء الكنيسة البطرسية 

لقد كان الهدف الأمريكى من زيارة المملكة فى تلك اللحظة، وما زال، هو سد الطريق على أى انتصار للإرادة المصرية، ضد المخطط الأمريكى الغربى، الهادف إلى تقسيم المنطقة. ذلك المخطط الذى تعلمه الإدارة السعودية الجديدة قبل القديمة، وتعلمه دول الخليج قبل القاهرة.

لذلك كان رهان القاهرة، ومازال، ألا تعطى الحكومة السعودية آذانا صاغية لتلك الرؤية، مهما بلغ الخلاف فى الرأى بين البلدين الشقيقين فى بعض قضايا المنطقة.

إن ما يردده بعض قادة الإرهابية كإبراهيم منير وغيره الآن عن المصالحة لا يعدو كونه يدًا ممدودة بالدم، يدًا هم أكثر من يعلمون أنها مرفوضة من هذا الشعب العظيم الذى قال كلمته مدوية فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ عندما ردد هتافه الشهير: يسقط يسقط حكم المرشد.

إذ كيف يقبل رجل فى مصر، وأنا هنا أخاطب الرجال بالمعنى لا بالجنس، ففى مصر نساء كالرجال وأكثر فى احترام قيمة الوطن.. أقول: كيف يقبل رجل أن يصافح أحدًا من الجماعة الإرهابية ولا يبصر الدم فى كل كف، كيف يصدق مقولات من قبيل «جئناك كى تحقن الدم، جئناك كن يا أمير الحكم.. ها نحن أبناء عم».. ولا يقول لهم.. «إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك»؟.

إن أحدًا من هؤلاء الذين يرددون هذا الكلام فى هذا التوقيت، لا يبصرون قوافل الشهداء من جنود وضباط الجيش والشرطة ومن المدنيين الذين تقتلهم الجماعة الإرهابية بدم بارد، ولا يسمعون صوت الشهيد وهو يردد: «كنت أغفر لو أننى مت ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ، لم أكن غازيًا، لم أكن أتسلل قرب مضاربهم، لم أمد يدًا لثمار الكروم، أرض بستانهم لم أطأ، لم يصح قاتلى بى انتبه، كان يمشى معى، ثم صافحنى، لكنه فى الغصون اختبأ.. فجأة ثقبتنى قشعريرة بين ضلعين واهتز قلبى كفقاعة وانفثأ»!.

لم يسمعوا كلمات الشهيد محمد مبروك التى أتخيل أنه يتلوها علينا قبيل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة: «الذى اغتالنى ليس أنبل منى، ليقتلنى بسكينته، ليس أمهر منى ليقتلنى باستدارته الماكرة، لا تصالح، فما الصلح إلا معاهدة بين ندين، فى شرف القلب لا تنتقض، الذى اغتالنى محض لص، سرق الأرض من بين عينى، والصمت يطلق ضحكته الساخرة».

إنه الغدر، فى كرداسة، فى الفرافرة، فى سيناء، فى الفيوم، فى المنيا، فى أسيوط، فى الأقصر، فى الهرم فى الكنيسة البطرسية.

عمليات إرهابية عديدة راح ضحيتها العشرات من أبنائنا من الجيش والشرطة والمدنيين الأقباط. من يملك المساومة على دمائهم ولا يسمع صوت أبنائهم، وهم يصرخون عندما تأتى سيرة المصالحة: «أبى لا مزيد..أريد أبى عند بوابة البيت منتصبًا من جديد.. ولا أطلب المستحيل.. إنه العدل».

نعم عندما تذهبون إلى المصالحة مع مصاصى الدماء، يجب أن تعيدوا لهؤلاء اليتامى آباءهم، لهؤلاء النسوة اللابسات الحداد أزواجهن، لهؤلاء الأمهات والآباء الذين فقدوا أبصارهم حزنًا وكمدًا على أبنائهم، نور أبصارهم.

يجب أن نسأل أنفسنا قبل أن تلوك ألسنتنا حديث المصالحة، هل تتحول دماء هؤلاء الشهداء بين عيوننا، فى لحظة من لحظات ضعفنا، ماءً؟.. هذا هو السؤال الذى سيظل يطاردنا فى نومنا، وفى صحونا إلى أن يجد إجابة شافية.

إن الأيادى المرتعشة، يا سادة، لا تبنى الأوطان، هكذا أثبتت الأيام، فالإرهاب يعيش عكسيًا مع الطريقة التى تتم مواجهته بها، فإذا كانت قوية ضعف، وإذا كانت ضعيفة استقوى علينا.

معادلة بسيطة، أثبتت صحتها عبر كل العصور، من عهد الملك فاروق وحكوماته وحتى الرئيس الأسبق مبارك، مرورًا بالرئيسين عبدالناصر والسادات.

المعركة مع الإرهاب ليست معركة حربية تقليدية، خاسر من يعتبرها أو يخوضها بهذا المفهوم، أو بأدوات مثل تلك التى تستخدم فى تلك الحروب، كالطائرات ومدافع الهاون، والدبابات، حرب الإرهاب تقوم على الإيمان بعدالة قضيتنا وعدم مساومتنا على دماء الشهداء، والإصرار على المضى فى طريقنا الذى اخترناه إلى آخر مدى.

ليست البندقية ولا حجم النيران، هما ما يحددان إطار المعركة، ولكن الإيمان هو ما يحددها وحجم قناعاتنا بعدالة قضيتنا، وحجم وعينا بالخطر المفروض علينا، وقدرتنا على التوحد فى مواجهته جيشًا وشعبًا وشرطة ورئيسًا.

ونختم بالشعر:

لا تصالح ولو قلَّدوك الذهب.. أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟ هي أشياء لا تُشترى!