الخميس 28 مارس 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: حرية الرأي والتعبير في الإسلام 14

نشر
عبد الرحيم علي

الإسلام الصحيح يناصر بلا حدود حرية الرأى والتعبير ويمنح الإنسان كل الحق فى الاختيار وفق إرادته الحرة بلا إكراه أو إجبار

12 إنجازًا لمدرسة التجديد والاجتهاد فى الفكر الإسلامى

أبرزها: وجوب فصل الدين عن الدولة والدعوة للابتكار والتجديد ورفض الجمود والتقليد

عوائق حدت من تأثير تيار التجديد والاجتهاد والإصلاح

أبرزها: سيطرة أفكار ورؤى مدرسة الجمود والتقليد وقدرتهم على التأثير فى جموع الشعب

 أثار السجال بين الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، والدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، جدلًا واسعًا بعد أن فُهِمَ من طريقة رد الإمام أن قضية التجديد لا تخص أحدًا إلا الأزاهرة، وبدا أمام الجمهور أن فضيلته يغلق باب الاجتهاد على المفكرين والمثقفين من غير خريجى الأزهر، فى وقت تحتاج فيه البلاد إلى كل صاحب فكر، وكل من يؤمن بضرورة إعمال العقل.

 


وقد فتح هذا السجال الباب لحوار مخلص وصادق وأمين يبتغى خير هذه الأمة ورصد كل ما يحقق إعلاء شأن العقل ويمنح للفكر حريته وللإنسان كرامته.. وقد بدأنا هذه السلسلة، تحت عنوان «حرية الرأى والتعبير».. ونواصل ما بدأناه على مدى عدة أيام مقبلة، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}

صدق الله العظيم

 

تحدثنا فى الحلقة السابقة عن أصوات التجديد المعاصرة وإخلاصها للإيمان، بحرية الرأى والتعبير فى الإسلام، واستعرضنا جهود تيار «التجديد» فى الفكر الإسلامي، وفى هذه الحلقة حول حرية الرأى والتعبير فى الإسلام، نتوقف أمام قضيتين مهمتين.

الأولي: عن فضل مدرسة التجديد والاجتهاد فى الفكر الإسلامي

والثانية: حول العوائق التى وقفت حائلا دون تفعيل آراء هذا التيار وحدت من انتشاره

١ – فضل مدرسة التجديد والاجتهاد:

رصد الشيخ أمين الخولى (١).. أهم الإنجازات التى قدمها تيار التجديد فى مسيرة الفكر الإسلامى فى ختام كتابه المهم «المجددون فى الإسلام»، موضحا أنها سعت إلى بعث عدد من المفاهيم التى حاولت مدرسة الجمود طمسها طوال قرون عديدة، وهى:

 

١. التطور الاعتقادى ضرورة حيوية لصالح الدين والدنيا.

٢. ضرورة انتشار مفاهيم التسامح الدينى ورحابة الأفق.

٣. حرية الاعتقاد وحق الفهم الصحيح للدين جزء ثابت من حقوق الإنسان.

٤. تحرير العقيدة الإسلامية من الأوهام التى تجعلها تقف فى مواجهة العقل أو العلم.

٥. فهم الدين على أنه إصلاح للحياة لا طقوس وأشكال.

٦. إدراك البعد الاجتماعى للدين وأهمية العدل والمساواة.

٧. إثبات أن الدين وسيلة لمقاومة الظلم ومجابهة الطغيان لا أداة فى يد الحكام لتبرير طغيانهم.

٨. التشديد على أن دور رجل الدين الوقوف مع الحق والعدل لا مع السلطان الجائر.

٩. عدم تدخل رجال الدين فى شئون الحياة العامة ووجوب فصل الدين عن الدولة.

١٠. سعة الأفق والانفتاح المعرفى والعلمى على كل المعارف والخبرات الإنسانية.

١١. الدعوة للابتكار والتجديد ورفض الجمود والتقليد.

١٢. أهمية أن يتحلى رجل الدين بالثقافة المدنية وسعة الأفق بجانب ثقافته الدينية.

 

العوائق التى حدت من انتشار تيار التجديد والاجتهاد:

 

يحدد د. عبد المتعال الصعيدي (٢) العوائق التى حدت من تأثير تيار التجديد والاجتهاد والإصلاح فى الفكر الإسلامي.. ولخصها فى الآتي:

١. الحكم الاستبدادى.. حيث فساد الحكم واستبداده يحول دون حرية الفكر وإطلاق مبادرات الإصلاح.

 

٢. عدم شمولية رؤى الإصلاح: فلم تكن رؤى الإصلاح شاملة، بل اهتمت بالجزئيات، وتركت الكليات.. وبمعنى معاصر، ضرورة الرؤية الإصلاحية الشاملة سياسيا واقتصاديًا وفكريًا ودينيًا.

 

٣. سيطرة أفكار ورؤى مدرسة الجمود والتقليد وقدرتهم على التأثير فى جموع الشعب.. على العكس من تيار التجديد والإصلاح الذى لم يستطع التوصل إلى خلق تيار جماهيرى يؤيده ويدافع عن رؤاه.

 

٤. خوف الحكام من الإصلاح ورجاله: فقد كانت الحكومات تنظر لأفكار الإصلاح (بشكل عام) على أنها ثورات واجتهادات مناوئة ورافضة تسعى لتقويض سلطانهم.

 

ولكن تظل المراهنة على المستقبل قائمة، حيث تلوح فى الأفق إمكانية نهوض حركة تجديدية إصلاحية تثق فى إمكانات المجتمعات الإسلامية، وقدرتها على تجاوز الضعف والوهن الذى تعيش فيه، وفى نفس الوقت تؤمن بأن استنهاض طاقات المسلمين تكون بإصلاح الفكر الدينى وتقديم صورة حقيقية لصحيح الإسلام، وأن الإسلام قوى بقدرته على الإقناع، وبمناصرته لحقوق الإنسان ودفاعه عن قيم الحق والحرية ومساندته للضعفاء والفقراء، واعتماده العدل منهجا للحياة، حيث لا فرق بين الناس بسبب الجنس أو العقيدة.. وإدراك المجتمعات الإسلامية بأن التدهور الذى حدث لها يعود لحالة الجمود التى سيطرت على فكرهم ورؤيتهم لدينهم.. وإيمانهم القوى بأن فتح أبواب التجديد والاجتهاد والإصلاح هى الأساس الذى سيأتى من ورائه العزة والمنعة والصلاح.

 

بانتهاء الحديث عن أصوات التجديد المعاصرة وإخلاصها للإيمان، بحرية الرأى والتعبير فى الإسلام، والعوائق التى وقفت حائلا دون تفعيل آرائهم نكون وصلنا إلى نهاية حلقاتنا، التى حاولنا فيها جاهدين مناقشة ثنائية الجبر والاختيار وما يترتب عليها من تداعيات، وضرورة فتح باب الاجتهاد، الذى تم إغلاقه قبل قرون، حتى يتسنى للمسلم المعاصر أن يواكب روح العصر ويتعامل مع همومه وقضاياه، وقبل أن نختتم المناقشة.

 

ونذكركم أننا تحدثنا عن «حرية الرأى والتعبير فى القرآن الكريم»

حرصنا فيه على تتبع وتحليل الخطاب القرآنى فى شموليته التى تتجاوز الظاهر والفهم الشائع، والبرهنة على أن الآيات القرآنية تعلى من شأن، الإرادة الحرة، وتمنح الإنسان- أى كل إنسان- حق الاختيار، وتؤكد أن الإيمان الحقيقى لا يمكن أن يكون وليدا للإجبار والإكراه والقهر، وأشرنا إلى سمو الدرس القرآني، الذى يأمر الرسول الكريم بالإعراض المترفع المتحضر عن مخالفيه، ومجادلتهم بالحسنى، والتعايش السلمى معهم فى إطار الإقرار بحق الاختلاف والتباين.

 

«حرية الرأى والتعبير فى السنة النبوية»

لم تكن السيرة النبوية، إلا تأكيدا عمليا لما يدعو إليه القرآن الكريم وينادى به، ففى سلوك الرسول العملي، ما يقود إلى المعنى نفسه، وما كان له- عليه الصلاة والسلام- إلا أن يتبع دروس الوحى وتعاليم القرآن، ويترجم ذلك كله إلى أفعال ومواقف تتوافق مع جوهر الفكر الإسلامى الذى يجسده القرآن.

 

الخلفاء الراشدون وحرية الرأى والتعبير

كان الخلفاء الراشدون، رضوان الله عليهم، فى طليعة من جسدوا، بسلوكياتهم وممارساتهم، جوهر الفكر الإسلامى النقى فى المجالات كافة، ومن المنطقى أنهم أولوا لحرية الرأى والتعبير مكانة سامية تتمثل بجلاء ووضوح فى كثير من مواقفهم العملية المضيئة، واستعرضنا خلال الحلقات تلك المواقف، ثم تناولنا بالتحليل محاولات المجتهدين القدامى، ورواد التجديد فى الدفاع عن حرية الرأى والتعبير، ووقفنا على ما قابلهم من إشكاليات، وكانت غاية المأمول فى كل ما سبق أن يكون الاجتهاد ناجحا فى تحقيق الهدف، وهو البرهنة العلمية العملية على أن الإسلام الصحيح يناصر- بلا حدود- حرية الرأى والتعبير، ويمنح للإنسان كل الحق فى الاختيار وفق إرادته الحرة، بلا إكراه أو إجبار.

 

وإيضاح أنه من المنطقى أن يقود الجمود، والإعراض عن التجديد، والتشبث بكل ما هو تقليدى استاتيكي، إلى حالة فكرية خطيرة، تتجلى أهم مظاهرها فى الاعتقاد اليقينى بامتلاك الحقيقة المطلقة والصواب الذى لا يداخله الشك، وهو إيمان يقترن بالماضى وحده، ويتعلق بالأفكار القديمة مهما تنأى عن روح العصر وتتناقض مع إيقاعه المختلف.

 

وفى الختام أتمنى أن أكون نجحت فى تسليط الضوء على قضية خطيرة، تتعلق بالفكر الإسلامى من ناحية، وهو الذى يتعرض لكثير من سوء الفهم من قبل كثير من الجاهلين به والمحسوبين عليه، وتتعلق بواقع المسلمين ومستقبلهم من ناحية أخري، من منطلق أنهم جزء من المنظومة الإنسانية الشاملة.

 

للحديث بقية عن عظمة الإسلام فى أمور كثيرة غير حرية الرأى والتعبير، التى حاولنا أن نساهم فى توضيحها، فما فعلناه «غيض من فيض»، نلقاكم فى سطور جديدة لو كان فى العمر بقية.

 

تمهيد

يهدف هذا التمهيد إلى مناقشة بعض المصطلحات والقضايا الجوهرية، التى يرى الباحث أن الوعى بأبعادها يمثل مدخلا لا غنى عنه، من أجل الإدراك الصحيح المتكامل لمفهوم «حرية الرأى والتعبير فى الإسلام»:

- مكانة الإنسان فى الإسلام

- ثنائية الجبر والاختيار

- معنى الاجتهاد وأهميته

مكانة الإنسان فى الإسلام..

 

إذا كان حق الإنسان فى التعبير الحر عن آرائه وأفكاره ومعتقداته مطلبا لا غنى عنه ولا تفريط فيه، كما تدعو مفاهيم وقيم العصر الحديث، فإن الإحاطة الواعية الموجزة بنظرة الإسلام إلى الإنسان، تبدو ضرورية قبل التطرق إلى مناقشة موقف الإسلام من حرية الرأى والتعبير.

 

ينظر القرآن الكريم إلى الإنسان على اعتبار أنه قيمة غالية ثمينة، فهو خليفة الله على الأرض، والمسئول عن تحمل الأمانة الثقيلة، التى لا تطيقها الكائنات والمخلوقات الأخرى: «البقرة-٣٠»

 

لقد وردت مفردة «الإنسان» فى عشرات الآيات القرآنية، وكثيرة هى الدراسات التى توقفت أمام صورة الإنسان فى القرآن الكريم. لا تتسع المساحة هنا لتقديم عرض تفصيلى للجوانب المختلفة عن طبيعة الإنسان فى القرآن، ولكن من الركائز المهمة لهذه الصورة:

١- الإنسان خليفة الله على الأرض.

٢- وهو المسئول عن إعمار الكون واستمرار وجوده.

٣- مثل هذه المهمة الجليلة لا تنافى محدودية الكائن الإنساني.

٤- يختلط الخير والشر فى أعماق الإنسان، فهو ليس ملاكا ولا شيطانا.

٥- هذا الاختلاط والتداخل هو ما يجعل من الإنسان كائنا متفردا، ذا إرادة وقدرة على التمييز بين الخير والشر.

الإنسان مجبول على الفساد والإفساد وسفك الدماء، والإنسان- وهذا هو سر عظمته وتميزه- يمتلك الإرادة التى تتيح له أن يسعى إلى الارتقاء والسمو، ولا بديل عن امتلاكه للأدوات التى تتطلبها الإرادة: إعمال العقل، والقدرة على التعبير، والحق فى إبداء الآراء المخالفة للسائد والشائع.

لا يمكن- منطقيا- أن يكون خليفة الله على الأرض عرضة للاضطهاد والظلم والقهر والقمع والكبت، والقرآن الكريم يمنحه ما يستحق من الاحترام والتقدير والتبجيل، لكن المشكلة فيمن يفهمون القرآن ويفسرونه ويحولون أحكامه الإلهية السامية إلى دولة وسلطان وسياسة قوامها المصلحة والمنفعة.

 

المحافظون المتزمتون، يدعون إلى الأخذ بالنص الحرفى للعقيدة بلا تصرف، ولا يعترفون إلا بالأوضاع التى وردت فى ذلك النص والحلول التى أتى بها لهذه الأوضاع. ومن الواضح أن هذا الموقف يؤدى إلى خلق هوة سحيقة، وازدواجية عميقة، بين المصدر الذى يستمدون منه أفكارهم ويبنون عليه تصرفاتهم، والظروف الفعلية التى يعيشون فيها. وتنعكس هذه الازدواجية بوضوح على إخفاقهم فى التصدى لمشكلات العصر، ومخاطبتهم الجماهير، والأجيال الجديدة بوجه خاص، بلغة يصعب أن نجد لها انطباقا على الواقع.

 

المفارقة، التى تستحق الاهتمام والتأمل، أن النص القرآنى يتسع للكثير من الحقوق التى لا يقر بها من يعتقدون أنهم أوصياء على الإسلام ومحتكرون لفهمه واستنباط أحكامه وشرائعه.

المراجع

١- أمين الخولي: المجددون فى الإسلام، ص ١٥٨: ١٦٨ (بتصرف)

٢. عبد المتعال الصعيدي: المجددون فى الإسلام، ص ٤٣٥: ٤٣٨ (بتصرف)