السبت 20 أبريل 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: حرية الرأي والتعبير في الإسلام «١٣».. النصوص القرآنية والنبوية لا تمنع قيام أحزاب سياسية فى المجتمع الإسلامى

نشر
حرية الراي والتعبير
حرية الراي والتعبير فى الاسلام

الإسلام لا يضيق نظامه السياسى بالتعددية الحزبية.. والنصوص القرآنية والنبوية لا تمنع قيام أحزاب سياسية فى المجتمع الإسلامى

جمال البنا: الإيمان والكفر قضية شخصية وليست من قضايا «النظام العام» والقرآن كان حاسمًا فى تقرير حرية الرأى والتعبير

محمد سليم العوا: السلام هو الأصل فى مفهوم الإسلام، وفى علاقات المسلمين بغيرهم، وفى تشريعات الجهاد

نواصل ما بدأناه في الأيام السابقة، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

بسم الله الرحمن الرحيم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}

صدق الله العظيم

تحدثنا فى الحلقة السابقة عن أصوات التجديد المعاصرة وإخلاصها للإيمان بحرية الرأى والتعبير، وفى هذه الحلقة نستكمل توضيح ما جاء على ألسنة بعض رموز التجديد من المعاصرين عن حرية الرأى والتعبير فى الإسلام.

٥ - جمال البنا

يقول البنا فى كتابه «حرية الرأى فى الإسلام»: «إن الإيمان والكفر قضية شخصية وليست من قضايا «النظام العام»، التى تتصدى لها الدولة، فمن آمن فإنه ينفع نفسه ومن كفر فإنه يجنى عليها والله تعالى غنى عن العالمين، ولقد قرر القرآن الكريم عبر آياته أن الرسل وهم حملة الوحى وأولى الناس بقضية الإيمان والكفر ليس لهم من سلطة إلا التبليغ ولا يملكون وراء ذلك شيئًا فالرسول ليس حفيظًا، ولا وكيلًا عن الناس، لكنه بشير ونذير ومذكر ومبلغ، وأكدت أن الهداية من الله وأن الرسول ليس مكلفًا بكفالة هذه الهداية لأحد، وأنه لا يملك أن يهدى من يحب، وأن الاختلاف والتعددية كلها مما أراده الله، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة وذكر الردة مرارًا، وتكرارًا وبشكل صريح دون أن يفرض عقوبة دنيوية عليها، وأكد مرارًا أنه هو الذى يفصل يوم القيامة فيما فيه يختلفون.

 

ويتساءل البنا: هل ترك القرآن (بعد كل هذا) شيئًا لدعاة حرية الفكر والاعتقاد؟! ويجيب بالنفى مؤكدًا أن القرآن وصل إلى الغاية عندما حدد سلطة الرسل، وهم أعلى الأفراد مسئولية فى مجال العقيدة بهذا التحديد الدقيق (التذكير لا السيطرة)، وعندما صارح الرسول «ليس عليك هداهم» وأنه ليس إلا بشيرًا ونذيرًا، مبلغًا ومنذرًا، ووجهه بأنه لا يملك أن يهدى من يحب؛ لأن الهداية بيد الله وحده، ونبهه (أى الرسول) فى استفهام استنكارى «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟» «وما عليك ألا يزكى؟».

 

وهكذا كان القرآن حاسمًا فى تقرير حرية الرأى والتعبير لكل البشر دون وصاية من أحد، حتى ولو كان هذا الأحد هو الرسول ذاته (1)

٦- د. محمد سليم العوا

يعد العوا من أكثر المفكرين المحدثين إسهاما فى تيار التجديد والإصلاح الدينى المعاصر، وفى كتابه «الفقه الإسلامى فى طريق التجديد» تناول بشجاعة ومسئولية الباحث المدقق القضايا الشائكة أو المسكوت عنها فيما يعرض على الفكر الإسلامى الحديث والمعاصر من تحديات.. وأصَّل لها وخاض فيها بعلم ومعرفة وقدم إجابات شافية واضحة لكل هذه القضايا والإشكاليات.. بداية من أن الاجتهاد ضرورة، وركز على ضرورة التفرقة بين قواعد الإسلام وتطبيقاتها، وموقف الإسلام من الديمقراطية والحكم والانتخابات وتداول السلطة.

 

ومن القضايا التى عرض لها د. محمد سليم العوا قضية الموقف من غير المسلمين فى الدولة الإسلامية.. وبخاصة الموقف من قضية الجزية واعتبرها تقع فى ذمة التاريخ.

 

يقول(٢): الغالب على الدول الإسلامية المعاصرة أن شعوبها تتكون من نسبة كبيرة من المسلمين، ونسبة أصغر من الذين يدينون بغير الإسلام من المسيحيين أو اليهود أو أهل الديانات الأخرى، الذين يسن بهم سنة أهل الكتاب (كالمجوس والصابئة).

 

والعلاقة المعتادة بين هؤلاء وهؤلاء هى علاقة المشاركة فى الدار والأخوة فى الوطن.

 

والوشائج الرابطة بين الفريقين وشائج ثابتة لا تهزها محن طارئة تعترض حياة الفريقين أو حياة واحد منهما، وأواصر هذه العلاقة تشتد وتقوى إذا تعرض الوطن كله لمحنة عامة أو خاض حربًا ضد عدو أجنبى أو واجه طغيانًا من مستبد محلى.

 

وحين دخل الإسلام البلدان التى بعض سكانها لا يدينون به، نظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بمقتضى عقد يعرف فى الفقه والتاريخ باسم عقد «الذمة»، والذمة فى اللغة هي: العهد والأمان والضمان.

 

وفى الفقه هي: «عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبول أحكام دار الإسلام فى غير شئونهم الدينية». أما فى تلك الشئون فإن المسلمين مأمورون بتركهم وما يدينون.

 

وقد مضى الزمن بهذا العقد وتطبيقه، والناس- مسلمون وغير مسلمين-يعيشون فى سماحة وتفاهم ومودة شهد بها القاصى والداني، إلى أن دخل الاستعمار العسكرى الغربى جل بلاد الإسلام، بل دخل كل بلاده التى تضم المسلمين وغير المسلمين، فانتهى بذلك وجود الدولة الإسلامية التى أبرمت عقد الذمة، ونشأت دولة جديدة، بعد مقاومة استمرت عقودًا من السنين، للمستعمر الأجنبى شارك فيها المسلمون وغير المسلمين على سواء.

 

والسيادة القائمة لهذه الدول الإسلامية الحالية مبنية على النشأة الحديثة لها، التى شارك فى صنعها المسلمون وغير المسلمين معًا، وهذه السيادة تجعل المواطنين فى الدولة الإسلامية الحديثة متساوين فى الحقوق والواجبات، التى ليس لها مصدر سوى المواطنة وحدها، والتى تقررها دساتير الدول الإسلامية المعاصرة للمواطنين على قدم المساواة.

 

والذمة، من حيث هى «عقد»، يرد عليها ما يرد على جميع العقود من أسباب الانتهاء، وقد انتهى العقد بانتهاء طرفيه: الدولة الإسلامية التى أبرمته، والمواطنون غير المسلمين الذين كانوا يقيمون فى الأرض المفتوحة. فقد فقد كلاهما نفوذه وسلطانه- الذى به يستطيع الإلزام بتنفيذ العقد- بدخول الاستعمار الأجنبى إلى ديار الإسلام.

 

وليس معنى أن الذمة عقد «مؤبد»- كما يعرفه الفقهاء- أن يستعصى على أسباب الانتهاء المعروفة لكل عقد، وإنما التأبيد هنا معناه عدم جواز فسخه بإرادة الحكام المسلمين وعدم جواز قبول ظلمهم أو سكوت المسلمين عليه- إن وقع- لأهل الذمة.

 

والجزية- التى كانت شرطًا لهذا العقد- كانت مترتبة على عدم مشاركة غير المسلمين فى الدفاع عن دار الإسلام، إذ كان الدين هو محور هذا الدفاع، وكان تكليفهم به تكليفًا بما يشق أو لا يطاق، فأسقطه عقد الذمة فى مقابل الجزية. لذلك فقد أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل من أهل الكتاب المشاركة فى الدفاع عن دار الإسلام.

 

فغير المسلمين إذا أدوا واجب الدفاع عن الوطن لا يجوز فرض الجزية عليهم. وهذا هو حالنا اليوم، فهم لا فرق بينهم وبين المسلمين فى أداء واجب الجندية مما يجعل فكرة الجزية غير واردة أصلا.

التعددية الحزبية:

يقول العوا:(٣) «إن من المسائل المثيرة لجدل مستمر، بين الإسلاميين المعنيين بإصلاح أحوالنا السياسية على أساس من الإسلام، مسألة ارتباط تطبيق المنهج الديمقراطى فى اختيار الحكام وأعضاء المجالس النيابية ومراقبتهم بضرورة السماح بإنشاء التجمعات السياسية الحزبية. وأساس هذا الجدل أن ثمة موقفا تقليديا يقول: «لا حزبية فى الإسلام». وأن الحركة الإسلامية المعاصرة ورثت نقدًا مرًا -صادقًا- للأحزاب التى كانت قائمة عند نشأتها وفى إبان بلوغها الذروة من النجاح الجماهيري.

وكثير من الذين يذهبون مذهب إنكار جواز تجمعات حزبية فى الدولة الإسلامية يؤيدون ذلك بحجج تتعلق بوحدة الأمة الإسلامية من مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾

الآية ٩٢ سورة الأنبياء

وهؤلاء يرون أن الحزبية بما تؤدى إليه من تجمع الناس حول مبادئ متعددة وأفكار متباينة تنافى المبادئ الإسلامية، بل النصوص القرآنية والنبوية، الذامة للفرقة والمادحة للوحدة، وهى نصوص يوحى مجموعها-عندهم- بأنه لا يجوز أن يكون فى النظام السياسى الإسلامى ما يسمح بقيام أحزاب سياسية.

وهذا الفهم يقوم على أساسين:

أحدهما: حال سيئة كانت عليها الأحزاب السياسية- لا سيما فى البلدان العربية- عند نشوء الحركة الإسلامية الحديثة، فتأثر فكر هذه الحركة بالواقع، وأقام عليه انتقاده تلك الأحزاب انتقادًا يأخذ عليها ما تقع فيه من مثالب، سواء فى معالجتها القضية الوطنية أم فى تعاملها مع القوى الأخرى، عند تعارض المصالح بين بعضها والبعض الآخر.

وثانيهما: فهم خاص للنصوص الإسلامية التى تتحدث عن وحدة الأمة فتزكيها وعن الفرقة فتنهى عنها وتذمها، يذهب إلى انسحاب معانيها على التعدد السياسى فى إطار الوحدة الوطنية أو القومية.

والحق أن نصوص الإسلام القرآنية والنبوية لا تمنع أن تقوم فى المجتمع الإسلامى أحزاب سياسية بحال من الأحوال.

فالنصوص التى تتحدث عن الوحدة مدحًا، وعن الفرقة ذمًا، إنما تتحدث عن الوحدة الدينية والعقيدية كما يتبين من سياق الآية الثانية والتسعين من سورة الأنبياء- التى يحتج بها المانعون لقيام الأحزاب- إذ هى ختام حديث طويل أتت فيه الآيات السابقة على ذكر كثير من الأنبياء، وما أصابهم من نعم الله ورحمته، ثم اختتم النص القرآنى هذا السياق ببيان الصلة الرابطة بين أولئك الأنبياء السابقين عليهم صلوات الله وسلامه، وأنهم جميعًا أمة الإسلام التى تعبد ربًا واحدًا.

والأمر نفسه يجرى فى الآية الثانية والخمسين من سورة «المؤمنون». فالسياق كله يحكى قصص ما أصاب بعض الأنبياء من تكذيب أقوامهم لهم حتى يصل إلى عيسى ابن مريم وأمه، ليذكر عند ذلك بأن أمة الأنبياء واحدة وأن ربهم- تبارك اسمه- واحد.

فالوحدة الممدوحة هى تلك الوحدة فى الدين التى تعنى- أول ما تعنى- أن يعبد الله وحده لا يشرك معه أحد، ولا يشرك من دونه شيء، مع الإيمان الصريح الصادق بجميع النتائج الاعتقادية التى تترتب على عقيدة الألوهية والتوحيد فيها، والربوبية والتسليم لها، والفرقة المذمومة هى الفرقة فى هذين الأمرين أو فى النتائج المترتبة عليهما.

وهذا كله ليس من السياسة فى شيء.

الذى نحن فيه من جواز- أو وجوب- قيام الأحزاب السياسية فى النظام الإسلامى لا علاقة له من قريب أو بعيد بالعقيدة وما يتصل بها أو يترتب عليها من نتائج.

فخلاصة الاجتهاد الجديد فى هذا الأمر أن الإسلام لا يضيق نظامه السياسى بالتعددية الحزبية، وأن كل حزب لا يقوم على نقض الإسلام أو هدم مبادئه هو حزب يجوز له أن يدعو إلى ما يريد فى الدولة الإسلامية.

والفيصل بين الأحزاب وبعضها هو صندوق الانتخاب الحر الذى يقرر الناس فيه تولية من يختارونه لقيادة شئونهم مدة محددة من الزمن، ثم يرد الأمر إلى الناس مرة ثانية ليأتوا بغير هؤلاء إن شاءوا، أو يعيدوهم إلى موقع القيادة أن أرادوا. وبغير ذلك نهدر حق الأمة فى الاختيار وهو الأساس الأول فى التنظيم السياسى الإسلامي.

٧- الدكتور أحمد صبحى منصور

والرجل له اجتهادات مهمة حاربه من أجلها قادة المؤسسة الدينية الرسمية فى مصر (الأزهر الشريف)، ولم يهدأ لهم بال إلا بعد أن نجحوا فى فصله من الجامعة بسبب آرائه التى عجزوا عن مواجهتها بالفكر الحر، وجل اهتمام منصور كان منصبا على حرية الرأى والعقيدة.

يقدم منصور فى دراسة مهمة نشرت بمجلة الإنسان والتطور(٤)، تصورا جديدا حول علاقة السلام بالإسلام، يقول: «إن السلام هو الأصل فى مفهوم الإسلام، وفى علاقات المسلمين بغيرهم، وفى تشريعات الجهاد فى الإسلام.

فطبقًا لمصطلحات القرآن ولغته الخاصة، فإن كلمة الإيمان لها استعمالان: «آمن بـ»، «آمن لـ»، «آمن بـ» أى اعتقد، مثل قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾

البقرة الآية ٢٨٥

والاعتقاد هنا بمعنى الإيمان القلبى الباطني، أو التعامل مع الله تعالي، وفى ذلك يختلف البشر حتى خلال الدين الواحد والمذهب الواحد، والقرآن يؤكد على تأجيل الحكم على الناس فى اختلافاتهم العقيدية إلى يوم القيامة، حيث يحكم بينهم وحده فيما كانوا فيه يختلفون.

الاستعمال الثانى هو «آمن لـ» أى وثق واطمأن وأصبح مأمون الجانب يطمئن له الناس ويثقون فيه. ويتكرر هذا المعنى فى القرآن خصوصا فى القصص القرآني، ففى قصة نوح قال له المستكبرون: ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾

الشعراء - ١١١

أى كيف نثق فيك ونطمئن لك وقد اتبعك الرعاع. وفى قصة إبراهيم: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ». (العنكبوت: ٢٦) وقصة يوسف: «قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ» يوسف:١٧) وقصة موسي: ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ﴾

الدخان الآية ٢١

ومواضع أخرى كثيرة.

فكل من تأمنه وتثق فيه هو إنسان مؤمن فى مصطلحات القرآن، أما عقيدته، إن كانت بوذية أو إسلامية أو مسيحية أو يهودية، فهذا شأنه الخاص بعلاقته مع ربه. والله تعالى هو الذى سيحكم عليك وعليه وعلى الجميع يوم القيامة.

وقد جاء الاستعمالان معا لكلمة الإيمان فى قوله تعالى عن النبى محمد: «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

التوبة الآية ٦١

أى «يؤمن بالله» أى يعتقد فيه وحده الها، و»يؤمن للمؤمنين» أى يثق فيهم ويطمئن لهم.

والخلاصة أن الإيمان معناه فى القرآن هو الأمن فى التعامل مع الناس، وكل إنسان يأمنه الناس ويثقون فيه يكون مؤمنًا. ومعناه فى التعامل مع الله تعالى هو الاعتقاد فيه وحده الها لا شريك له. والحكم على هذا الاعتقاد- الذى يختلف فيه الناس- مرجعه لله تعالى وحده يوم القيامة، وبالتالى فإن المهم فى تعامل الناس فيما بينهم أن تسود بينهم الثقة والأمن والأمان.. أو السلام.. أى أن الإيمان فى الإسلام هو قرين السلام فى التعامل بين الناس.

ثانيًا: مفهوم الإسلام: وهو مثله مثل مفهوم الإيمان فى القرآن، له معنى ظاهرى فى التعامل مع الناس، ومعنى باطني، قلبي، اعتقادى فى التعامل مع الله.

الإسلام فى معناه القلبى الاعتقادى هو التسليم والانقياد لله تعالى وحده، والإسلام بهذا المعنى نزل فى كل الرسالات السماوية على جميع الأنبياء وبكل اللغات القديمة، إلى أن نزل أخيرًا باللغة العربية، وصار ينطق بكلمة «الإسلام» التى تعنى الاعتقاد والتسليم والانقياد والطاعة المطلقة لله وحده: ﴿قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين﴾

الأنعام: ١٦١، ١٦٣

وهذا هو معنى الإسلام فى الاعتقاد، والذى سيحكم الله تعالى عليه يوم القيامة، لأن الله تعالى لن يقبل يوم القيامة دينا آخر غير الخضوع أو الاستسلام له وحده، وذلك معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾

آل عمران الآية ١٩

والله تعالى لا يهتم بما يطلقه البشر على أنفسهم من ألقاب وتقسيمات، مثل الذين آمنوا والذين هادوا (اليهود) والنصارى، والصابئين (أى الخارجين على دين أقوامهم) لذلك فإنه سبحانه وتعالى يؤكد أن الذين يؤمنون إيمانًا باطنيًا وظاهريًا (بالأمن والأمان مع البشر وبالاعتقاد فى الله وحده) ويعملون الصالحات ويؤمنون باليوم الآخر ويعملون له، فهم من أولياء الله تعالى، سواء كانوا من المؤمنين أتباع القرآن، أو من اليهود أو النصارى أو من الصابئين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

البقرة الآية ٦٢

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

المائدة الآية ٦٩

أى أن من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحًا فهو عند الله قد ارتضى الإسلام أو الانقياد لله، سواء كان من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو الصابئين، فى كل زمان وفى كل لسان. وذلك ما سنعرفه يوم القيامة، وليس لأحد من البشر أن يحكم على إنسان بشأن عقيدته، وإلا كان مدعيًا للألوهية.

هذا هو معنى الإسلام الباطنى القلبى الاعتقادي، هو عند الله تعالى استسلام وخضوع له بلغة القلوب، وهى لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعًا مهما اختلف الزمان والمكان واللسان، وعلى أساسها سيكون حسابهم جميعًا أمام الله تعالى يوم القيامة.

أما الإسلام فى التعامل الظاهرى فهو السلم والسلام بين البشر مهما اختلفت عقائدهم يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾

البقرة الآية ٢٠٨

أى يأمرهم الله تعالى بإيثار السلم.

ونتذكر هنا أن تحية الإسلام هى السلام، وأن السلام من أسماء الله تعالى. وكل ذلك مما يعبر عن تأكيد الإسلام على وجهه السلمي، ويؤكد المعنى السابق للإيمان بمعنى الأمن والأمان.

المراجع

١- جمال البنا: حرية الفكر والاعتقاد فى الإسلام ص٦: ص٤٨ (بتصرف)

٢- د. محمد سليم العوا: الفقه الإسلامى فى طريق التجديد ص٧٣: ص٧٧

٣- نفسه: ص٥٦: ص٥٩

٤- د. أحمد صبحى منصور: حول العلاقة بالآخر (مقال بمجلة الإنسان والتطور عدد ٦٠ مارس ١٩٩٨ ص١١: ص٢٣