الأربعاء 24 أبريل 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: حرية الرأي والتعبير فى الإسلام (9)..الرسول لم يظهر أي عداوة لمجرمى الحرب فى فتح مكة ولم يُكره أحدًا على الإسلام

الرسول لم يظهر أي عداوة لمجرمى الحرب فى فتح مكة ولم يُكره أحدًا على الإسلام

نشر
الاسلام
الاسلام

الرسول لم يظهر أي عداوة لمجرمى الحرب فى فتح مكة ولم يُكره أحدًا على الإسلام

أمر الرسول بقتل ١٥شخصا بعد فتح مكة ولو تعلقوا بأستار الكعبة

النبى عفا عن ١١ شخصا ولم ينظر إلى ما كان منهم فى حال كفرهم؛ لأنهم كانوا يعيشون قبل الإسلام فى جهل وضلال

الرسول عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا «مكة» ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم من «قريش»

أهل مكة دخلوا بعد الفتح فى الإسلام طوعًا.. ويؤيد هذا أن بعضًا منهم بقى على الشرك ولم يسلم

نواصل ما بدأناه على مدى عدة أيام مقبلة، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

«فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا»

صدق الله العظيم

تناولنا في الحلقات السابقة حرية الرأي والتعبير في القرآن، تلك التي وصلت إلى حد نزول الله بالحوار إلى مستوى البشر ليقيم عليهم الحجة، ثم انتقلنا إلى تلك الحرية فى السيرة النبوية وتحدثنا عن تعامل الرسول «صلى الله عليه وسلم» مع قريش واليهود والمنافقين، وكيف أن الله سبحانه وتعالى شرع لهم الحرية وحافظ عليها حتى بعدما استهزءوا بآياته وبنبيه وكان أقصى ما أمر به رسوله الإعراض عنهم، والآن نستعرض تعامل النبى مع مجرمى الحرب فى فتح مكة.

مجرمو الحرب فى فتح مكة

المشهور أن حكم أسير الحرب فى الإسلام: القتل؛ أو الاسترقاق؛ أو المن بفك الأسرى بفداء أو بغير فداء.

وقد جاء فى كتاب المبسوط لـ«السرخسي» (١) أن بعض الفقهاء لا يجيز قتل الأسير، وأنه استدل على ذلك بأن القتل لم يذكر فى قوله تعالى:

«فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ».

[سورة محمد الآية: ٤]

ومن هنا ففى رأينا لا يجوز استرقاق الأسير أو قتله، لأن الآية لم تذكر الاسترقاق كما لم تذكر القتل.

هذا هو حكم الأسير بالنظر إلى اشتراكه فى القتال، فإذا كان عليه تبعات أخرى أخذ بها، وحكم عليه بما يختص به كل ذنب من الحكم، والذين تكون عليهم تبعات فى الحروب غير الاشتراك فى القتال؛ هم الذين يعرفون الآن باسم «مجرمى الحرب».

وقد كان من مجرمى الحرب فى فتح مكة جماعة استثناهم النبى «صلى الله عليه وسلم» من أهلها، وذلك أنه كان قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا «مكة» ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم من «قريش»، واستثنى من ذلك نفرا أمر بقتلهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة، وقد اختلف فى عددهم، فقيل: إنهم عشرة، وقيل: إنهم خمسة عشر. وهذه هى أسماؤهم:

١. «عبدالله بن خطل»، وكان قد هاجر إلى المدينة مسلما قبل فتح مكة، ثم بعثه النبى «صلى الله عليه وسلم» لأخذ الصدقة من بعض القبائل، وبعث معه رجلا يخدمه من الأنصار، فنزل يستريح فى بعض المنازل، وأمر الأنصارى أن يهيئ له طعاما، ثم نام إلى أن يهيئ له ذلك الطعام، فلما استيقظ لم يجده صنع شيئا، فمر عليه فقتله وارتد مشركا، ورجع إلى مكة فأقام بها، وكان شاعرا، فجعل يقول الشعر فى هجاء النبى «صلى الله عليه وسلم».

٢. «فرتني» وهي سيدة كانت مولاة «لعبدالله بن خطل»، وكانت تتغنى بما كان يكتبه مولاها فى هجاء النبى «صلى الله عليه وسلم».

٣. «قريبة» وكانت أيضا مولاة «لعبدالله بن خطل»، وكانت مثل صاحبتها تتغنى بهجاء النبى «صلى الله عليه وسلم».

٤. «هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي»، وكان قد عرض لزينب بنت النبى «صلى الله عليه وسلم» حين هاجرت من مكة إلى المدينة، وكانت حاملا، فنخّس بها الجمل حتى سقطت على صخرة فأسقطت جنينها، ولم تزل مريضة من أثر ذلك حتى ماتت.

٥. «الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي»، وقد شارك «هبارا» فى نخس جمل «زينب»، وانفرد بجريمة أخرى من نوع هذه الجريمة، فعرض لـ«فاطمة» «وأم كلثوم» بنتى النبى «صلى الله عليه وسلم» حين هجرتهما، وكان «العباس بن عبدالمطلب» حملهما على جمل من «مكة» إلى «المدينة»، فنخّس «الحويرث» بهما الجمل فرمى بهما على الأرض.

٦. «مقيس بن صبابة»، وكان قد هاجر من «مكة» إلى «المدينة» مظهرا الإسلام وكان له أخ هاجر قبله يسمى «هشام بن صبابة» وقد قتل خطأ فى غزوة «بنى المصطلق»، قتله رجل من الأنصار من رهط «عبادة بن الصامت»، وهو يرى أنه من العدو، فلما قدم «صبابة» على النبى «صلى الله عليه وسلم» من «مكة» قال له: يا رسول الله، جئتك مسلما، وجئتك أطلب دية أخي، قتل خطأ فأمر له بدية أخيه، ولم يقم إلا قليلا بالمدينة، ثم مر على قاتل أخيه فقتله، وارتد إلى مكة مشركا.

٧. «وحشي بن حرب» غلام «جبير بن مطعم»، وكان قد قتل «حمزة» عم النبى «صلى الله عليه وسلم» غيلة فى غزوة «أحد».

٨. «هند بنت عتبة» زوجة «أبي سفيان بن حرب» وكانت قد مثّلت بقتلى «أحد» من المسلمين، فكانت هى ونساء معها يجدعن الآذان والأنوف، ثم يتخذن منها قلائد. وهى التى قامت ببقر بطن حمزة (عم النبى صلى الله عليه وسلم) واستخرجت كبده وحاولت أكلها إلا أنها لم تستطع أن تستسيغها فلفظتها.

٩. «عبدالله بن سعد بن أبى سرح بن الحارث»، كان قد أسلم وكتب للنبي (صلى الله عليه وسلم) ما ينزل عليه من الوحي، ثم ارتد فزعم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يملى عليه –عزيز حكيم– فيكتب –غفور رحيم– ثم يقرأ عليه فيقول: نعم سواء، «فإن كان يوحى إليه فقد أوحى إلى، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله».

١٠. «عكرمة بن أبى جهل بن هشام المخزومي»، وكان هو وأبوه من أشد المشركين على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد لقى مستضعفو المسلمين بمكة من أذاهما ما لم يلقوه من غيرهما.

١١. «كعب بن زهير بن أبى سلمى»، وكان يهجو النبى (صلى الله عليه وسلم) فى شعره، ولما أسلم أخوه «بجير» جعل يعيره ويلومه على إسلامه.

١٢. «الحارث بن هشام المخزومي»، وهو أخو «أبى جهل» لأبويه، وكان مثله فى شدة أذاه للمسلمين.

١٣. «زهير بن أبى أمية المخزومي»، وجرمه مثل جرم عكرمة والحارث.

١٤. «صفوان بن أمية بن خلف الجمحي»، وكان قد بعثه ابن عمه «عمير بن وهب» إلى المدينة عقب غزوة بدر، ليقتل النبي (صلى الله عليه وسلم) بمن قتل فيها من المشركين، فأمسكه وأخبره بما جاء من أجله، فدعاه إلى الإسلام؛ لأنه كان سرا بينه وبين «صفوان».

١٥. «سارة» مولاة بنى المطلب، وكانت مغنية بمكة فقدمت على النبى (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة، فشكت إليه الحاجة، وطلبت منه الصلة فوصلها ومنحها بعيرا طعاما، فرجعت إلى مكة وقابلت إحسانه إليها بغنائها فى هجائه.

هؤلاء هم مجرمو الحرب الذين حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، واستثناهم من أهل «مكة» حين أمر بقتال من يقاتل منهم، ونهى عن قتال من لم يقاتل منهم.

فأما «عبدالله بن خطل» فإنه ركب فى يوم الفتح فرسه ولبس درعه، وأخذ بيده قناة، وصار يقسم: لا يدخلها محمد عنوة. فلما رأى خيل المسلمين أدركه الخوف، فذهب إلى الكعبة وتعلق بأستارها، يظن أن ذلك ينجيه من القتل الذى يستحقه بقتله الأنصارى الذى كان يخدمه، فرآه النبي (صلى الله عليه وسلم) عند طوافه وهو متعلق بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه؛ فإن الكعبة لا تعيذ عاصيا، ولا تمنع من إقامة حد واجب». فقتله «أبو برزة الأسلمى» و«سعيد بن حريث المخزومي».

وأما «فرتني» فإنها هربت حتى استؤمن لها عند النبي (صلى الله عليه وسلم) فأمنها، وقد أسلمت فعفا عنها ولم يقتلها.

وأما «قريبة» فإنها قتلت ولم تسلم كما أسلمت «فرتني».

وأما «هبار بن الأسود» فإنه هرب ثم طلع على النبى (صلى الله عليه وسلم) منصرفه من الجعرانة، فقالوا: يا رسول الله، «هبار بن الأسود». فقال: قد رأيته. فأراد رجل القيام إليه، فأشار إليه: أن اجلس. فوقف «هبار» فقال: السلام عليك يا نبى الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وقد هربت منك فى البلاد، وأردت اللحاق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك، كنا يا رسول الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا من الهلكة، فاصفح عن جهلي، وعما كان يبلغك عني؛ فإنى مقر بسوء فعلي، معترف بذنبى فقال له النبى (ص): «قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما قبله».

وأما «الحويرث بن نقيذ» فإنه دخل بيته وأغلق بابه، فقصده «على بن أبى طالب» رضى الله عنه لقتله، فقيل له: هو فى البادية، فتنحى عن بابه، فخرج يريد أن يهرب من بيت آخر، فتلقاه على فضرب عنقه.

وأما «مقيس بن صبابة» فقتله «نميلة بن عبدالله الليثي» وهو رجل من قومه.

وأما «وحشى بن حرب» فإنه هرب إلى الطائف، ولما خرج وفد من الطائف إلى المدينة ليعرضوا على النبي (صلى الله عليه وسلم) إسلام أهلها، ضاقت عليه المذاهب، وأراد أن يلحق بالشام أو اليمن أو بعض البلاد، فقال له رجل: «ويحك، والله إنه ما يقتل أحدا دخل دينه» فخرج حتى قدم على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلم يدعه إلا به قائما على رأسه يشهد شهادة الحق، فلما رآه قال له: وحشي؟… قال: نعم يا رسول الله.

فقال له: اقعد فحدثنى كيف قتلت حمزة؟… فقعد فحدثه كيف قتله، فلما فرغ قال له: غيب وجهك عني. فكان يتنكب النبى (صلى الله عليه وسلم) حيث كان لئلا يراه حتى قبضه الله.

وأما «هند بنت عتبة» فإنها اختفت فى بيت زوجها «أبى سفيان» ثم أسلمت وأتت النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو بالأبطح، فقالت له وهو لا يعرفها: الحمد لله الذى أظهر الدين الذى اختاره، لتمسنى رحمتك يا «محمد»، فإنى امرأة مؤمنة بالله مصدقة به، ثم كشفت نقابها فقالت: أنا «هند بنت عتبة». فقال لها؛ مرحبا بك. ثم عفا عنها.

وأما «عبدالله بن سعد بن أبى سرح» فإنه لجأ إلى «عثمان بن عفان» رضى الله عنه، وكان أخا له من الرضاع، وقال له «يا أخي، استأمن لى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يضرب عنقى فغيبه عثمان حتى هدأ الناس واطمأنوا، ثم أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، أمنته فبايعه. فنظر إليه مليا ثلاثا، كل ذلك يأبى أن يبايعه، ثم بايعه بعد ثلاث وعفا عنه.

وأما «كعب بن زهير» فإنه خاف وخرج حتى قدم «المدينة» بعد رجوع النبي (صلى الله عليه وسلم) إليها، فأسلم أمامه ومدحه بقصيدته: «بانت سعاد فقلبى اليوم متبول.. متيم إثرها لم يفد مكبول».

فلما وصل إلى قوله: «إن الرسول لنور يستضاء به.. مهند من سيوف الله مسلول».

رمى إليه بردة كانت عليه، وقد احتفظ بها «كعب» عنده إلى آخر حياته، ولما صار الأمر إلى «معاوية بن أبى سفيان» بذل له فيها عشرة آلاف درهم، فأبى أن يبيعها وقال له: «ما كنت لأوثر بثوب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذى أعطانيه أحدا».

وأما «عكرمة بن أبى جهل» فإنه هرب ليلقى نفسه فى بئر، أو يموت تائها فى البلاد، وكانت امرأته «أم حكيم» أسلمت واستأمنت له النبي (صلى الله عليه وسلم) فأمنه، فخرجت فى طلبه حتى أدركته وأخبرته بما فعلت؛ فرجع معها، وأتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فأسلم وعفا عنه.

وأما «الحارث بن هشام» و«زهير بن أبى أمية» فإنهما هربا واختبآ عند «أم هانئ بنت أبى طالب». وكانا من أحمائها، فدخل أخوها «على» عليها، وقال: «والله لأقتلهما» فأغلقت عليهما باب بيتها ثم ذهبت إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لها «مرحبا وأهلا بـ«أم هانئ»، ما جاء بك؟»… فأخبرته بما يريد «على» من قتل من أجارته، قال لها: «قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما».

وأما «صفوان بن أمية» فاختفى وأراد أن يلقى نفسه فى البحر، فأتى ابن عمه «عمير بن وهب» النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال له: يا نبى الله، إن «صفوان» سيد قومه، وقد هرب ليقذف نفسه فى البحر، فأمنه فإنك أمنت الأحمر والأسود. فقال له: أدرك ابن عمك فهو آمن. فخرج فأدركه وأتى به إليه، فقال له «إن هذا يزعم أنك أمنتني» فقال: صدق. فقال له «أمهلنى على الشرك شهرين» فقال: لك أربعة أشهر. ثم خرج إلى غزوة حنين وهو على شركه، ولما قسمت غنائمها أعطاه النبي (صلى الله عليه وسلم) مائة من الإبل، ثم مائة ثم مائة، ورآه يرمق شعبا مملوءا نعما وشاء فقال له: «يعجبك هذا؟» قال: نعم. فقال له «هو لك وما فيه» فقال: إن الملوك لا تطيب نفسها بمثل هذا، ما طابت نفس أحد قط بمثل هذا إلا نبي، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله» وكان ذلك قبل أن تنتهى المدة التى أمهل إليها.

وأما «سارة» فإنها استؤمن لها عند النبى (ص) فأمنها، فجاءته فأسلمت، وعفا عنها.

فإذا نظرنا فى هذا العدد الكثير الذى حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) بقتله، نجد أن الذى نفذ فيه حكم القتل أربعة فقط، وأنه لم يقتل منهم أمام النبي (صلى الله عليه وسلم) إلا واحدا فقط، وهو «عبدالله بن خطل»، وقد قتل هو و«مقيس بن صبابة» قصاصا؛ لأنهما كان قاتلان كما سبق، وأما الاثنان الآخران وهما: «الحويرث بن نقيذ» و«قريبة» مولاة «ابن خطل» فإنهما لم يقتلا أمام النبي (صلى الله عليه وسلم) ولو أنهما أسلما وأتيا النبي (صلى الله عليه وسلم) لعفا عنهما وقد عفا عن «هبار بن الأسود» وكان أشد منهما جرما. ويبقى بعد هذا أن ننظر فى السبب الذى سقط به حكم القتل عمن سقط عنه منهم، فهل بقى جرمهم بعد إسلامهم؟ فعفا النبى (صلى الله عليه وسلم) بما له من حق العفو لأن جرمهم لم يصل إلى جرم القتل الذى حصل من «ابن خطل» وقد حصل فى حال شركهم، وهو يجعل لهم شيئا من العذر، ويجعل أخذهم بالعفو أولى من أخذهم بالعقوبة؟… أو ذهب جرمهم بإسلامهم ولم يبق له أثر؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «الإسلام يجب ما قبله». وقد قال الله تعالى: «قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ». [فى الآية – ٣٨ – من سورة الأنفال]

ولا شك أن الإسلام قد ضرب بذلك مثلا صالحا فى معاملة مجرمى الحرب، ليعلم الناس أن الأولى أخذهم بالعفو بعد القدرة عليهم، وقد قال القدماء فى أمثالهم: «القدرة تذهب الحفيظة».

فقد كان عدد هؤلاء المجرمين خمسة عشر مجرما، فعفا النبى (صلى الله عليه وسلم) عن أحد عشر منهم، ولم ينظر إلى ما كان منهم فى حال كفرهم؛ لأنهم كانوا يعيشون قبل الإسلام فى جهل وضلال، ويتأثرون فى ذلك بأحوال بيئتهم، فلهم فى ذلك شيء من العذر، وأخذهم بالعفو أولى وأجدر، والإسلام دين هداية ورحمة، لا دين تشف وانتقام، وقد قام أمره على نسيان الإساءة، وإيثار دفع السيئة بالحسنة، ليزيل العداوة بالصفح، ويمحو الخصومة بالعفو، حتى لا تكون هناك عداوة بين الناس، وإنما يكون بينهم السلام والمحبة.

أمان أهل مكة بعد الفتح:

يوضح عبدالمتعال الصعيدى (٢) أن «من المفسرين من يذهب إلى أن المراد من «الفتنة» فى الآية (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) هو الشرك. ولكن حمل الفتنة على الشرك بعيد عن معناها، وبعيد عما سار عليه القتال مع مشركى مكة وغيرهم، ولنا فى فتح مكة أكبر دليل على أن قتال النبى (صلى الله عليه وسلم) لأهلها كان ردا على قتالهم له ولم يكن لأجل إدخالهم فى دينه، فقد سار إليها بجيش عظيم يكفى لإدراك غرضه من ذلك لو كان يريده، ولكنه حين أمكنه الله منهم ونادى بالأمان قبل حصول الفتح بالفعل فيهم قال «من دخل الكعبة فهو آمن، ومن دخل داره وأغلقها عليه فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن».

ولم يذكر النبى (صلى الله عليه وسلم) فى أمانه لأهل مكة، أن من أسلم فهو آمن، لئلا يفهموا أنه يريد أن يكرههم على الإسلام ليؤمنوا به، مع أنه لم يرد إلا أن يفتح مكة للمسلمين ليمكنهم من الحج إليها وهو ركن أساسى من أركان دينهم.

وليس لأهل مكة أن يمنعوهم من أدائه، لأن البيت ليس بيتهم وإنما هو بيت الله.

وإذا كان جمهور أهل مكة قد دخلوا بعد الفتح فى الإسلام فإنهم دخلوا فيه طوعا لا كرها، ويؤيد هذا أن بعضا منهم بقى على الشرك ولم يسلم، وكانوا يبلغون بضعة وثمانين، فلم يكرههم النبى (صلى الله عليه وسلم) على الإسلام، ولم يظهر لهم شيئا من العداوة، ولم يعتد عليهم فى أنفسهم وأموالهم، بل أبقاهم على ما كانوا عليه قبل الفتح، ولما سار من مكة إلى غزوة حنين أرادوا أن يسيروا معه، فأخذهم معه إليها، وأعطاهم من غنائمها مثلما أعطى المسلمين، بل ضاعف لبعضهم العطاء تأليفا لقلوبهم، فدخلوا فى الإسلام طائعين بعد أن رأوا منه هذا الكرم، وبعد أن رأوا من مكارمه ما لا تصح إلا لنبي.

المراجع

١- كتاب المبسوط لـ«السرخسي».

٢- القضايا الكبرى فى الإسلام لـ«عبدالمتعال الصعيدي».