الثلاثاء 23 أبريل 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: أزمات الأقباط ليست تهجيرًا فقط

نُشرعلى موقع البوابة نيوز، الأربعاء 03 يونيو 2015

نشر
عبد الرحيم علي


أشعر بالعار يا سيادة الرئيس، فالملف شائك والجرح غائر، والألم مبرح، إذ كيف يمكن أن يحدث ذلك الفعل المشين بعد ثورتين، دفع فيهما إخوتى من الأقباط ثمنًا فادحًا. لقد وقف الأقباط شامخين في الثورتين، يدافعون عن وطن الحلم والذكريات والأجداد، وطن جمعنا جميعا وصهرنا في بوتقة واحدة منذ مئات السنين، وطن عشقناه معا ودافعنا عنه معًا واحتضناه معًا وثرنا من أجل كرامته معًا، كيف يمكن لنا إذن أن نتصور حدوث ذلك الذي يحدث من تهجير لأسر مسيحية في الإسكندرية والمنيا وبنى سويف، على مرأى ومسمع من الجهات الرسمية للدولة، وبحجة حمايتهم. كيف يمكن أن نستوعب حدوث ذلك وأنت موجود يا سيادة الرئيس.

لقد تحمل الأقباط تلك الممارسات في عهود سابقة، تجرعوا الألم مرارا وتكرارا من أجل أن تأتى اللحظة التي ينصفهم فيها مواطن مصرى مسلم، يحمل أخلاقيات عبد الفتاح السيسى، وجئت أنت يا سيادة الرئيس فاستبشر الأقباط خيرًا، خاصة بعد أن أعطيت المثل والقدوة وذهبت بنفسك في أول زيارة رسمية لرئيس مصرى إلى الكاتدرائية لتقديم التهنئة لهم في عيدهم، لكن سرعان ما عادت ريما لعادتها القديمة، ذات الممارسات ونفس القصص التي حزنّا زمنًا من أجلها، وروعتنا سنوات طويلة، تترى الآن على مسامعنا وأمام أعيننا ونحن خجولين من أنفسنا ومنها، لا نستطيع البوح بها إلا لك يا سيادة الرئيس، لأنك المواطن المتسامح الخلوق «عبد الفتاح السيسى».

لقد بدأت مأساة الأقباط الحقيقية، يا سيادة الرئيس، مع بداية حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي بدأه بالتصالح الشهير مع جماعة الإخوان المسلمين، والقطيعة الكبرى مع رجال ورموز الحقبة الناصرية، تمهيدًا للانقلاب الكبير على كل موروثات حقبة الرئيس جمال عبدالناصر.

كانت حادثة كنيسة الخانكة بداية تحويل ملف الأقباط والفتنة الطائفية برمته إلى جهاز مباحث أمن الدولة، الذي لم يكن مؤهلًا، ولم يزل، لمعالجة هذا النوع من القضايا والمشكلات الحساسة.

وجاءت أحداث الزاوية الحمراء ١٩٨٠ لتمثل أول اختبار لتعامل جهاز مباحث أمن الدولة مع تلك المشكلة، فقد وقف الرئيس السادات، في مشهد مسرحى، يشرح ما كتبه له إبانها وزير داخليته، النبوى إسماعيل، مشددا على أن المسألة لا تعدو خناقة بين أسرة مسلمة وأسرة مسيحية حول قطرات من الماء العفن سقطت من شرفة إحداهن على غسيل الأخرى، الأمر الذي تسبب في مشكلة تدخل على إثرها جيران الطرفين لتتسع مداها في النهاية وتطال مواطنين كثر.

كان الأمر بالطبع أبعد من هذا بكثير، والمفارقة أن أحداث الزاوية الحمراء كانت بروفة نهائية لاستعراض القوة قامت بها جماعات العنف الدينى في مصر قبيل اغتيال السادات، ففى محاولة لتحدى أجهزة الأمن واختبار القوة، جاءت إلى القاهرة مجموعة كبيرة من قادة الجماعة الإسلامية في الصعيد لإشعال تلك الأحداث تحت دعوى منع إقامة كنيسة على قطعة أرض فضاء بالحى، ووصل بهم التحدى إلى طلب تغيير ضابط مباحث مسيحى كان يعمل بالمصادفة رئيسًا لمباحث الشرابية وتمت الاستجابة لطلبهم على الفور ونقل الضابط المسيحى، ولكنهم على الرغم من ذلك أشعلوا الأحداث التي راح ضحيتها سبعة عشر مواطنا بينهم مواطن مسلم، إضافة إلى حرق ونهب ممتلكات عديدة للأقباط ولبعض المسلمين على السواء.

وكما تفعل أجهزة الأمن في كل حادث، واستمرارًا لسياسة البعد عن وجع الدماغ التي كانت مطبقة في تلك العهود، قامت بالقبض على بعض البلطجية المسجلين خطر وقدمتهم على أنهم أبطال الأحداث وتم إغلاق الملف.

كان هذا الاستعراض للقوة من قبل الجماعة الإسلامية هو الأخير قبل العرض العسكري في السادس من أكتوبر ٨١ والذي تم فيه اغتيال السادات، والمفارقة هنا أنه لو تم اكتشاف تلك المجموعة، وعرض الأمر بصورته الصحيحة على الرئيس في حينه، لتم تجنب وإحباط محاولة اغتياله في العرض العسكري في أكتوبر عام ١٩٨١.

وعلى نفس المنوال نسجت أجهزة الأمن في كل الحوادث التي تعرض لها الأقباط في الماضى، ففى السادس عشر من يونيو عام ١٩٨١ توجه أربعة ملثمين يقودهم على الشريف، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية، إلى نجع حمادى بقنا حيث قاموا بقتل ستة من كبار تجار الذهب الأقباط وسرقة محتوىات محالهم - وهى المحتوىات التي تم تمويل حادث مقتل السادات واغتيالات أسيوط التالية له بها.

ووفق الرؤية الأمنية، صاحبة الحق في التعامل مع هذا الملف، تم تعذيب عدد من المسجلين خطر سرقات للاعتراف بارتكاب الجريمة، ثم تم وضعهم في المعتقلات وأغلق الملف كالعادة، إلى أن تم اكتشاف اللعبة عقب اغتيال السادات وأثناء التحقيق مع المتهمين، الغريب أن الضابط المسئول عن هذه القضية ظل يترقى في سلم الوظيفة حتى رتبة اللواء وهو داخل جهاز مباحث أمن الدولة.

لم يختلف الأمر كثيرًا في تسعينيات القرن الماضى عندما ارتفعت موجة العنف لتطال الجميع واتخذت الجماعة الإسلامية المصرية المسلحة الأقباط رهينة لإجبار النظام على الرضوخ لطلباتها، وبعيدًا عن الاضطهاد الذي رأيناه بأم أعيننا للأقباط في حقبتى الثمانينيات والتسعينيات في المنيا وأسيوط وسوهاج وقنا، والذي وصل إلى حد تطبيق الحدود عليهم في مسجد الرحمن بأرض المولد بالمنيا على مرأى ومسمع من أجهزة الأمن، وكذا تعليق الرءوس على أعمدة الإنارة بعد عمليات القتل، كما حدث بين عامى ١٩٩٢ و١٩٩٤ في أبوقرقاص بالمنيا، وكذا عمليات التهجير التي طالت عشرات الأسر آنذاك، فإن الاعتداءات على الأقباط بلغت ذروة لم تبلغها من قبل في مرحلة التسعينيات التي شهدت مقتل أكثر من مائة قبطى في حوادث متفرقة، وظل الأمن كعادته يصف هذه الحوادث المنظمة بأنها حوادث فردية يقوم بها بعض الموتورين غير صحيحى العقيدة، ووصل الأمر بمدير أمن أسيوط، اللواء مجدى البسيونى، إلى أن وصف مذبحة عزبة الأقباط بأسيوط في فبراير عام ١٩٩٦ - والتي راح ضحيتها ثمانية من الأقباط - بحادث عشوائى. واكتفى النظام بحفلات التقبيل بين الشيوخ والقساوسة عقب كل حادثة، خاصة عندما تكون عنيفة كحادثة اقتحام كنيسة مار جرجس بأبى قرقاص في فبراير عام ١٩٩٧ وإطلاق النار على المصلين من الخلف، وهى الحادثة التي خلفت ثلاثة عشر قتيلا، وانتهى الأمر باحتفال واسع ضم مشايخ وقساوسة من الجانبين، وحضره محافظ المنيا آنذاك، اللواء عبد الحميد بدوى، وألقيت عدة كلمات من الشيوخ والآباء والكهنة عبرت عن مكنون الود بين الأقباط والمسلمين.

كنت قبلها بسنوات قد غطيت أحداث أبو قرقاص عام ١٩٩٠ التي تم خلالها حرق مبان وسيارات مملوكة للأقباط في المدينة تحت دعوى قيام مجموعة من الشباب القبطى بتحريض فتيات مسلمات على القيام بأفعال فاضحة، وهى الدعوى التي تطورت بعد عشر سنوات لتصبح على أيدى كتاب كبار كفهمى هويدى وسليم العوا وآخرين، وإجبارهن على التنصير.

لم يقف الأمر عند هذا الحد في التعامل الأمنى مع تلك الظاهرة الخطيرة، فعندما ذهبنا إلى صنبو عام ١٩٩٢ لتغطية المذبحة التي راح ضحيتها أربعة عشر قبطيا، فوجئنا بالأمن يقوم بحماية الإرهابيين الذين نفذوا المذبحة، بل ويحيل إليهم شكاوى المواطنين، وحصلنا في ذلك الحين على شكوى لمواطن وقع عليها رئيس مباحث ديروط بالقول: «الشيخ عرفة للتصرف»، وعرفة هذا كان أميرا للجماعة الإسلامية التي أشعلت الأحداث بصنبو.

كان اللواء عبد الحليم موسى، وزير الداخلية آنذاك، يحلو له وصف ما حدث في صنبو عام ١٩٩٢، باعتباره صراعا عائليا بين عائلتين لا علاقة له بالتطرف أو الطائفية، وقد شن وقتها هجوما شخصيا عليّ واتهمنى بإثارة الفتنة لأننى أطلقت على ذلك الحادث مصطلح «مذبحة صنبو».

دير المحرق ودميانة وعزبة الأقباط وعزبة داود والتمساحية:

كل هذه الأسماء السابق الإشارة إليها قرى وأديرة شهدت مذابح بشعة ضد الأقباط بين عامى ١٩٩٤ و١٩٩٧ راح ضحيتها العشرات، وظلت الدولة تتعامل مع المسألة بنفس الأسلوب، لا طائفية في الأحداث، أحداث فردية، لا متهمين يقدمون إلى المحاكم ولا أحكام. مأساة حقيقية أن تضيع هيبة القانون في بلد يباهى الأمم بحضارته التي تعود إلى سبعة آلاف عام، بلد يسمح ببناء الخمارات وكازينوهات القمار وملاهى الرقص والعربدة لتجار الفشة والكرشة، ويفكر ألف مرة قبل الإقدام على منح قرار ببناء دار عبادة للمسيحيين! لقد تكشف لى أثناء سنوات متابعتى لهذا الملف يا سيادة الرئيس، والتي تربو على ربع قرن حتى الآن، أن معظم أسباب الفتنة تأتى من عدم السماح ببناء الكنائس، والبعض الآخر من التراخى في تطبيق القانون على الجميع واحترام هيبة الدولة، إذ كيف يفهم أن يسمح لقاصر أن تتزوج لمجرد أنها مسيحية أحبت شابا مسلما وتريد الارتباط به، وكيف يسمح قانون في مصر بتعيين وصى على تلك القاصر بخلاف أهلها للسماح لها بتغيير الديانة، وماذا لو تم هذا مع فتاة مسلمة، إنها مشكلة تطبيق قانون وإعماله على رقاب الجميع دون اعتبارات سياسية أو دينية.

بناء الكنائس والتحولات الجوهرية:

في العديسات بالأقصر والعياط بالجيزة ومنقطين بسمالوط ومدن أخرى عديدة في ربوع مصر المحروسة راح مسلمون عاديون يحرقون كنائس يتعبد فيها الأقباط لسنوات، لا لشيء إلا لورود شائعة بأن الأقباط في طريقهم إلى ترميمها أو بناء جدرانها التي تهدمت دون إذن أو تصريح من الدولة، والسؤال هنا: كيف تحول هؤلاء البسطاء من المسلمين إلى متطرفين؟! إن هذه الأفعال كانت، ولحقب عديدة، مقصورة على فئة من الإرهابيين لهم مطالب سياسية معينة.. فماذا حدث؟ الغريب أنه لا يوجد أحد يطرح هذا السؤال ولا يوجد من يسعى بجدية للإجابة عنه، وبعيدا عن السؤال الذي طرحناه فإننا نرى الحل أبسط من أن يظل دهرًا كاملًا حتى يتم تطبيقه واللجوء إليه، وهو ليس بسيطًا وفقط، وإنما أيضا في متناول سلطات الدولة التي تملك الحق وحدها في السماح ببناء وترميم الكنائس وحماية المتعبدين بها، ولكن يبدو لى أن البعض كان يريد وضع هذا الملف - دائما - على سطح صفيح ساخن للمناورة به حينا وللضغط به حينا آخر وللتلويح به في أحايين كثيرة، وهو ما لمسته وأدركته يا سيادة الرئيس عندما تحدثت عن المواءمات السياسية مشددًا على أنه عصر ولى إلى غير رجعة. ما أهمله هؤلاء يا سيادة الرئيس ربما عن عمد، أن هذا الملف لا يجب أن يدخل حلبة الإحتراب السياسي مهما كانت الأسباب والدوافع، وإنما يجب وضعه في قلب اهتمامات الدولة بشكل عام، ورئيسها بشكل خاص باعتباره أخطر وأهم ملف في مصر، خاصة ونحن ندرك أن جهات عديدة تقف بالمرصاد منتظرة وقوعنا في الخطأ وتتمنى في داخلها أن يأتى الخطأ من هذا الاتجاه.

الأقباط مطالبهم محددة وواضحة، وقد كشفت عنها جميع الأحداث والمشكلات التي مرت بالبلاد طوال العقود الخمسة الماضية: إيجاد حل سهل ومريح لبناء دور العبادة الخاصة بهم، والبحث عن حلول عملية لمشكلة تمثيلهم السياسي، وإزالة الاحتقان الطائفى بإيجاد قانون ينص على احترام المعتقدات وتحريم إثارة الفتنة والتحريض عليها، وأخيرا إعمال القانون وحماية نساء الأقباط، والقاصرات منهن خاصة، من عمليات الخطف المنظم، التي تتم تحت ستار غرام الأفاعى بين مسلم ومسيحية، ذلك الغرام الذي لا يسمح سوى أن يكون طرفاه فتاة مسيحية وشاب مسلم ولا يسمح بالعكس أبدا، وأخيرا إلغاء ومحو كلمة التهجير القصرى للأقباط نهائيا من قاموسنا، لأنها عار يطالنا جميعا، يا سيادة الرئيس، خاصة بعد ثورتين عظيمتين.

أما على المدى البعيد فمطلوب وضع تصور لقانون موحد لدور العبادة، مسلمة كانت أم مسيحية، والعمل على تمثيل مناسب، أقره دستور ثورة ٣٠ يونيو، للأقباط في البرلمان، هذا إضافة إلى إنشاء مجلس أعلى للوحدة الوطنية، يضم حكماء من المجتمع المدنى من الجانبين، يكون له حق التدخل السريع واقتراح إجراءات محددة لعلاج الظواهر المسببة للاحتقان الطائفى، وبهذا نكون قد عبرنا بمصر إلى بر الأمان.