الخميس 28 مارس 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: مدد يا الله

نُشرعلى موقع البوابة نيوز يوم الأحد 14/يونيو/2015

نشر
عبد الرحيم علي

في كتابه الممتع «القضايا الكبرى في الإسلام» يخصص المفكر الإسلامى الكبير، المرحوم الدكتور عبدالمتعال الصعيدى، القضية الثامنة لمن سماهم «مجرمى الحرب» الذين أوصى النبى بقتلهم، حتى ولو تعلقوا بأستار الكعبة، وهم وفق نص الكتاب: «جماعة استثناهم النبى، صلى الله عليه سلم، من أهل مكة، وذلك لأن النبى كان قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا «مكة»، «ألاّ يقاتلوا إلا من قاتلهم من قريش»، واستثنى من ذلك نفرًا أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وقد اختلف في عددهم، فقيل: إنهم عشرة، وقيل: إنهم كانوا خمسة عشرة.. ويورد الصعيدى أسماء هؤلاء ومن بينهم كعب بن زهير الذي كان يسب الرسول شعرًا، ويمضى الصعيدى مستعرضًا مصير هؤلاء الذين أهدرت دماؤهم، وبعيدا عن أن الذين قتلوا من كل هؤلاء كانوا أربعة وقتلوا حدًا لقتلهم مسلمين، فما يهمنا هو ما حدث مع كعب بن زهير، الذي بدأ به تاريخ المديح النبوى، فقد كان كعب يهجو الرسول والمسلمين شعرًا فأبلغه أخوه «بجير» أن الرسول أباح دمه ونصحه أن يأتى إلى النبى تائبا لأنه، صلى الله وعليه وسلم، لا يقتل تائبًا.

وبعد تفكير ومحاولات مستميتة دخل كعب إلى المدينة، فنزل على رجل كانت بينَهُ وبينه معرفة قديمة، فغدا به إلى الرسول في صلاة الصبح، فصلى معه، ثم أشار له فقام كعب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى جلس إليه، فوضع يده في يده، وأخذ في إنشاد قصيدته المشهورة بـ(البردة) التي تعد من أمهات النصوص في فن المدح النبوى ومفتتح هذه المدرسة.

ابتدأ كعب قصيدته بالغزل وفق قواعد الشعر القديم قائلًا:

بانَتْ سُعادُ فَقَلْبى اليَوْمَ مَتْبولُ​​ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ

وَمَا سُعَادُ غَداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا​​ إِلاّ أَغَنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ

حتى وصل إلى قصة توعد الرسول صلى الله عليه وسلم إياه ومجيئه طالبًا العفو منه:

أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني​​ والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ

وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِرًا ​​والعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبولُ

مَهْلًا هَداكَ الذي أَعْطاكَ نافِلَةَ ​​الْقُرْآنِ فيها مَواعيظٌ وتَفُصيلُ

لا تَأْخُذَنِّى بِأَقْوالِ الوُشاة ولَمْ ​​أُذْنِبْ وقَدْ كَثُرَتْ فِىّ الأقاويلُ

ثم يمضى مادحًا الرسول الأكرم وأصحابه مشيدًا بشجاعتهم وبسالتهم وسمو أخلاقهم:

إنَّ الرَّسُولَ لَنورٌ يُسْتَضاءُ بِهِ ​​مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ اللهِ مَسْلُولُ

في فِتْيَةٍ مِنْ قُريْشٍ قالَ قائِلُهُمْ​​ بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أسْلَمُوا زُولُوا

زالُوا فمَا زالَ أَنْكاسٌ ولا كُشُفٌ​​ عِنْدَ الِّلقاءِ ولا مِيلٌ مَعازيلُ

شُمُّ العَرانِينِ أبْطالٌ لُبوسُهُمْ​​ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ في الهَيْجَا سَرابيلُ

بِيضٌ سَوَابِغُ قد شُكَّتْ لَهَا حَلَقٌ​ كأنَّها حَلَقُ القَفْعاءِ مَجْدولُ

يَمْشونَ مَشْيَ الجِمالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ​​ ضَرْبٌ إذا عَرَّدَ السُّودُ التَّنابِيلُ

لا يَفْرَحونَ إذا نَالتْ رِماحُهُمُ​​ قَوْمًا ولَيْسوا مَجازِيعًا إذا نِيلُوا

لا يَقَعُ الطَّعْنُ إلاَّ في نُحورِهِمُ​​ وما لَهُمْ عَنْ حِياضِ الموتِ تَهْليلُ

فرمى عليه النبى صلى الله عليه وسلم ببردته فكشف الرجل عن وجهه فإذا به كعب بن زهير فعفى عنه النبى صلوات ربى وسلامه عليه، وقد سن كعب بن زهير بتلك القصيدة التي أطلق عليها «البردة» نسبة إلى بردة النبى صلى الله عليه وسلم التي منحها لكعب بن زهير.

ورغم عظم وجزالة بردة كعب بن زهير إلا أن العهد النبوى حفل بالعديد من المدائح النبوية ومنها بل في مقدمتها ما قاله حسان بن ثابت شاعر الرسول والذي قال له النبى: إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله... وقال الرسول عن هجائه لقريش: «هجاهم حسان، فشفى واشتفى» ومما قاله في هذا السياق:

نَبِيٌّ أَتانا بَعدَ يَأسٍ وَفَترَةٍ مِنَ الرُسلِ وَالأَوثانِ في الأَرضِ تُعبَدُ

فَأَمسى سِراجًا مُستَنيرًا وَهادِيًا يَلوحُ كَما لاحَ الصَقيلُ المُهَنَّدُ

وَأَنذَرَنا نارًا وَبَشَّرَ جَنَّة وَعَلَّمَنا الإِسلامَ فَاللَهَ نَحمَدُ

وَأَنتَ إِلَهَ الحَقِّ رَبّي وَخالِقي بِذَلِكَ ما عُمِّرتُ في الناسِ أَشهَدُ

وبعد وفاة النبى قال:

المصطفى أرجـو بذاكَ جـوارهُ وفِى نيلِ ذاك اليومِ أسعى وأجهـدُ

 ولم يقف المديح عند كعب بن زهير وحسان، فكتب السيرة تسجل لنا مدائح نبوية عديدة قالها آخرون بل كان طبيعيًا ألا يخلو عصر من العصور الإسلامية من المديح النبوى فبرزت أسماء كالفرزدق والشريف الرضى والكميت وحتى مهيار الديلمى له مساهمته البارزة في هذا السياق، لكن يبقى «البوصيرى» المولود بقرية بوصير - بين الفيوم وبنى سويف - والذي عاش في القرن السابع الهجرى من أهم شعراء المديح النبوى ومن الآباء المؤسسين للقصيدة المدحية النبوية، ويقال إنه سماها «بالبردة» لأنه كان مريضًا فرأى النبى (صلى الله عليه وسلم) وقد حنا عليه وغطاه ببردته أو عباءته، فشفي بعدها وبرأ من مرضه لهذا سميت أيضًا «بالبرأة» وتسمى أيضًا «بالميمية» لأن آخر قافيتها حرف الميم والاسم الأصلى للقصيدة «الكواكب الدرية في مدح خير البرية».

يقول البوصيرى في أحد مقاطعها:

 نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِـــــــــــــي فَلاَ أَحَدٌ أَبَرَّ في قَوْلِ لاَ مِنْــــــــــــهُ وَلاَ نَعَمِ

 هُوَ الحَبِيبُ الذِّي تُرْجَـــــى شَفَاعَتُهُ لِكُـــــــــــلِّ هَوْلٍ مِنَ الأَهْوَالِ مُقْتَحِمِ

 دَعَـــــــا إِلىَ اللهِ فَالْمُسْتَمْسِكُونَ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْــــــلٍ غَيْرِ مُنْفَصِمِ

 فَاقَ النَبِيّينَ في خَلْــــــقٍ وَفى خُلُقٍ وَلَمْ يُدَانُـــــــــــوهُ في عِلْمٍ وَلاَ كَرَمِ

 وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُـــــــــولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفًا مِنَ البَحْـــرِ أَوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ

 وَوَاقِفُونَ لَدَيْـــــــــــــــهِ عِنْدَ حَدِّهِمِ مِنْ نُقْطَةِ العِلِمِ أَوْ مِنْ شَكْلَةِ الحِكَمِ

 فَهْوَ الذِّي تَمَّ مَعْنَاهُ وَصُورَتُــــــــهُ ثُمَّ اصْطَفَاهُ حَبِيبًــــــا بَارِئُ النَّسَمِ

 مُنَزَّهٌ عَنْ شَرِيكٍ فــــــــيِ مَحَاسِنِهِ فَجَوْهَرُ الحُسْنِ فِيِـــهِ غَيْرُ مُنْقَسِمِ

 دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى في نَبِيِّـهِمِ وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمِ

 وَانْسُبْ إِلىَ ذَاتِهِ مَا شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ وَانْسُبْ إِلىَ قَدْرُهُ مَا شِئْتَ مِنْ عِظَمِ

 فَإِنَّ فَضْلَ رَسُولِ اللهِ لَيْسَ لَــــــــــهُ حَدٌّ فَيُعْرِبَ عَنْـــــــــــــهُ نَاطِقٌ بِفَمِ

 تأثير البوصيرى:

امتد تاثير بردة البوصيرى إلى العصر الحديث فألهمت شوقى قصيدة «ريم على القاع» التي غنتها أم كلثوم والتي يقول في مقطع منها:

 يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ

لَقَد أَنَلتُكَ أُذنًا غَيرَ واعِيَةٍ وَرُبَّ مُنتَصِتٍ وَالقَلبُ في صَمَم

ِيا ناعِسَ الطَرفِ لا ذُقتَ الهَوى أَبَدًا أَسهَرتَ مُضناكَ في حِفظِ الهَوى فَنَمِ

 وإذا كان التغنى بمدح النبى وصفاته والبقاع المقدسة لم يتوقف في عصر من العصور فإنه ازدهر وانتشر مع معرفة العالم العربى لوسائل الإعلام والاتصال الحديثة فأصبح لهذا الفن رموز ورواد وأبرز هذه الوجوه في عصرنا الراهن الشيخ ياسين التهامى مغنى المدائح النبوية الشهير.

ولد التهامى في 6 ديسمبر عام 1949م في قرية الحواتكة مركز منفلوط محافظة أسيوط، وأنشد التهامى بصوته العذب أشهر قصائد المدح النبوى على مر العصور، ورغم هجوم المتشددين على الرجل فالشيخ التهامى ما زال هو نجم المدائح الأوحد.

يحفل موقع اليوتيوب بالعديد من مدائح وابتهالات التهامى ويأتى في مقدمتها قصيدة الإمام علىّ كرم الله وجهه «النفس تبكى على الدنيا» وكذلك رائعة الحلاج «والله ما طلعت شمس ولا غربت».

وستظل إشراقات العشق النبوى تضىء سماء عالمنا الإسلامى وتعطر أجوائه رغم أنف مدعى ومتنطعى الإخوان، وسنظل نهتف من أعماق قلوبنا ما حيينا «مدد يا الله».