الجمعة 19 أبريل 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبد الرحيم علي يكتب: علّى صوتك بالغنا.. لسه الأغاني ممكنة

نُشرعلى موقع البوابة نيوز يوم الأحد 22 مارس2015

نشر
عبد الرحيم علي

ولا انكسار.. ولا انهزام.. ولا خوف ولا.. ولا حلم نابت في الخلا.. أُقر أنا المذكور أعلاه.. أنني متورط تمامًا وبكامل إرادتي.. في تلك الحدوتة التي أكتب عنها، تلك الورطة الجميلة التي تملكتني منذ أكثر من ثلاثين عامًا منذ كان عمري عشرين.

عن ثلاثة عقود ويزيد من العمر، أكتب، عن شبابيك عمرنا التي فتحناها مبكرًا على منير وعبد الرحيم منصور، فاتسعت رؤانا.. ولامسنا الحلم.. وملأتنا الدهشة.. وكأننا بنتولد من أول لمسة.. عن بريء.. أسمر بلون الشيكولاتة.. جاء من نوبة مصر الدافئة.. فاقتحمنا بثبات وثقة وتفرد.. كان عكس المرحلة تمامًا.. فأنكره البعض.. واندهش البعض.. وخشى منه البعض.. أولئك الذين أدمنوا المألوف والسائد.. فناموا على هدهدات الرومانتيكية البليدة.. وعلى ألحان التطريب، ومفردات القواميس المستهلكة.. ومعاني الكلمات سابقة الإعداد.. والألحان المكرورة، تحت الطلب، خرج الفتى الأسمر أشعث الشعر والروح، يلهث من غيرة على بلاده.. البسيط، من وسط الدايرة، كأنه مُوكل بفضاء الروح يزرعه.. يرتب الطبيعة.. يهندم الأحاسيس والمشاعر.. يدعونا.. ليس فقط لأن نسمعه بعقولنا ووجداننا.. ولكن -وعلى خطى الجد العظيم سيد درويش- يسمح لنا أن نشاركه الغناء.. غنى لنا.. وغنينا معه.

علمنا حيلة جميلة، وخبيثة، نحن العشاق الذين ينتابنا الخجل، ولا نملك شجاعة البوح بمشاعرنا لحبيباتنا -وقتها- كنا نهمس أو نردد على مسامعهن مقاطع من أغنياته.. علموني عنيكي أسافر.. يا عروسة النيل يا حتة من السماء.. يلي صورتك جوه قلبي ملحمة.. خلط الحبيبة بالوطن، فتوحدت العيون والقلوب.

فإن أصاب السهم قلب المحبوبة، خير وبركة.. وإن كان غير ذلك.. نراوغ ونقول: إنما كنا نقصد.. الوطن.. لقد منحتنا كلمات عبد الرحيم منصور وصوت وأحاسيس محمد منير، راحة وعمقًا وخصوصية.. أغاني منير.. وقصائد أحمد عبد المعطي حجازي، ومحمود درويش.. شكلت مفردات رسائل غرامنا الأول.. وحيلنا الجميلة للتواصل مع حبيباتنا، فى عشرينيات العمر.

بدأ مشوار منير الغنائي.. فى العام ١٩٧٧.. ومنذ ألبومه الأول.. ظهر منير كمشروع غنائي متكامل.. رؤية جديدة ومغايرة.. على جميع المستويات.. كلمة.. ولحن.. وأسلوب غناء.. ليس مجرد حلاوة صوت.. الأغنية عند منير، موقف ورؤية وأسلوب حياة..وهنا تجدر الإشارة لرفاق المشوار، المبدعين الكبار.. عبد الرحيم منصور وأحمد منيب ويحيى خليل وهاني شنودة، نحن أمام حالة متناغمة متفاهمة، المشتركات الفكرية والثقافية والفنية بينهم كثيرة ومتحققة، لذا جاء الإبداع الجماعي على درجة عالية من الإتقان والجودة، هنا كمن سر النكهة والطعم المتميز المتفرد لتجربة منير، كان فريق العظماء على مستوى إبداع، حنجرة ووجدان وعقل منير، وكان هو على مستوى إبداع خلطتهم العبقرية، فى الكلمة واللحن والتوزيع.

أغاني منير.. حواديت للوطن

دعانا منير أن نكتب، أسامينا، فى دفتر الوطن.. دعانا.. أن نتكلم ونبوح.. ليه تسكتي للزمن.. اتكلمي.. ليه تدفعي وحدك التمن.. اتكلمي.. 

عندما أصاب الغدر والإرهاب قلب الوطن.. غنى منير، قلب الوطن موجوع، وعندما حاول اللصوص المخادعون، تجار الدين سرقة مصر.. وتجريف تاريخها وثقافتها وفنونها.. وتحريم الفرحة على المصريين.. كانت أيقونة منير وصرخته الخالدة، علّي صوتك بالغنا.. لسه الأغاني ممكنة.. ولو في يوم راح تنكسر.. لازم تقوم واقف كما النخل باصص للسماء.. ولا انهزام.. ولا انكسار.. ولا خوف ولا.. ولا حلم نابت في الخلا.

وكانت أغنية منير، إزاي، مانفيستو ثورة الإنسان ضد أي نظام، في أي زمان وفي أي مكان.. رددها الملايين في كل الميادين.

إزاى ترضيلي حبيبتي.. أتمعشق اسمك وانتي.. عمالة تزيدي في حيرتي.. وما انتيش حاسة بطيبتي إزاي؟

إزاي سيباني في ضعفي.. طب ليه مش واقفة في صفي.. وأنا عشت حياتي بحالها علشان ملمحش في عينك خوف.

منير.. انحاز للبسطاء.. الفلاحين الغلابة.. العمال الطيابة.. غنى للغريب وبطولاته.. للجنود.. للبنت أم المريلة كحلي.. للصليب.. للهلال.. للقدس.. للانتفاضة.. للشهداء.. للحياة.

وببراعة ووعي.. أعاد منير اكتشاف كنوز التراث الغنائي، ليس فى مصر فقط، وإنما على امتداد الوطن العربي.. من الجزائر والمغرب، إلى تونس وليبيا، ومن السودان، إلى لبنان والأردن وفلسطين.

من حق منير أن يزهو بما قدم لنا.. ومن حقنا، وواجبنا، أن نزهو به.. وأن نعلن انحيازنا ومحبتنا له.

وعليك يا صديقنا، ومؤنس أيامنا، كل أيامنا، اليوم الحلو واليوم المر، ألا تلقي بالًا ولا يشغلك عن مشروعك المتميز الممتد، أفعال وأقوال الصغار.

عندما سمعت البعض يتبجح على منير، منارة الغناء في مصر والعالم العربي والعالم، تذكرت كيف حاول البعض التهجم على كبار مبدعينا.. نجيب محفوظ ومحمود درويش، وأمل دنقل وفيروز.. وغيرهم.. وخاب الصغار.. وظل الكبار.. كبارًا.

أنت ملك الغنا.. مغنواتي عصرنا وجيلنا.. ومغنواتي المحروسة.. وستظل كذلك رغم حقد الحاقدين.. وكراهة الأفاقين.. مصاصي دماء الوطن.. وبائعي الوهم..

لا أود ولا أرغب أن أبدو من خلال سطورى تلك، في ثوب الناقد، ولا المؤرخ الفني، أنا أكتب إقراري هذا كمتلقٍ.. محب.. ومتورط في عالم منير الغنائي.. منحاز نعم.. أقول ما أرى.. ما أشعر.. ما يخصني في تلك.. الحدوتة.. ولكني في ذات الوقت أعلم أن الملايين يشاركونني ذلك الحب والانحياز والعرفان لمنير.. منير عصرنا وحدوتة روحنا.. دمت يا صديقنا.. ودامت أغنياتك.