الجمعة 29 مارس 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: جذور معركة العمائم

تم نشر هذا المقال على موقع البوابة نيوز، الخميس 25 ديسمبر ٢٠١٤

نشر
عبد الرحيم علي

فى ديسمبر من عام 1881، كتب الإمام محمد عبده، مفتي الديار المصرية، فى برنامج الحزب الوطني المصري أنه: "حزب سياسي لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان وأن حقوقهم فى السياسة والشرائع متساوية". ولكن ما الذى حدث بعد أقل من ربع قرن؟.

كان الإمام على فراش مرضه الأخير عام 1905، يترنم ببيتين من الشعر: 

ولســتُ أبالي أن يُقال محمد .. أبلَّ أم اكتظـــت عليه المآتـم

ولكنــــه دين أردت صلاحــــه .. أحاذر أن تقضي عليه العمائم

والفارق بين المشهدين، هو التعبير عن الصراع الذى لم يتوقف بين اتجاهين سارا جنبا الى جنب في الحياة الفكرية في مصر، وبخاصة فيما يتعلق بالفكر الديني والأزهر الشريف، الاتجاه التجديدي المستنير الذي مثله آنذاك الإمام محمد عبده، والاتجاهات التقليدية المحافظة التي سادت في ذلك التوقيت وسيطرت على الأزهر الشريف. وقد استمر الصراع على أشده بعد رحيله ورحيلهم. 

والمشكلة فى رأيي مركبة، ففي الوقت الذي تحتاج فيه دعوة الإصلاح الديني إلى مجتمع قادر على استيعابها، فإن الوصول إلى هذا المجتمع يتطلب وجود رؤية دينية عصرية متسامحة. 

وقد كتب الإمام محمد عبده في معرض صراعه المرير مع أصحاب الاتجاه المحافظ والتقليدي، مؤكدا أن المنهج الإسلامي لا يعتمد إلا علي الدليل العقلي‏،‏ ولا يعرف الخوارق والمعجزات، وكانت كلماته تلك، ضربة قاضية من الإمام المستنير لأصحاب العقول المريضة والمتسلطة.‏

أعلن الإمام الرائد أن الإيمان بالله سابق للاعتقاد في الرسل والإيمان بما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة‏.‏

وبذلك أعلي محمد عبده من شأن العقل‏،‏ وجعل منه مرشدا وهاديا، لأن الإيمان لا يتأتى إلا من العقل، إذ أن الله لا يعرف سوى بالعقل، كما يقول البسطاء من المصريين‏.‏

والإيمان لا ينبع من القهر والإجبار، فهو وليد المعاناة والتأمل والنظر‏،‏ وحصيلة منطقية لإجهاد الذهن في إطار من الحرية والاتكاء علي الإرادة الواعية‏.(‏ محمد عبده‏:‏ الإسلام بين العلم والمدنية ص‏74).‏

بدا الخطاب الذي يقدمه الإمام محمد عبده، آنذاك، مختلفا عن السائد في عقود عديدة‏،‏ بل في قرون طويلة سابقة له ولا يعني هذا أنه يضيف إلي الإسلام ما ليس فيه‏،‏ بل إنه، في حقيقة الأمر، يحاول إزالة الكثير من الصدأ المتراكم عبر عصور الانحطاط والانغلاق والتزمت‏،‏ حيث إيثار السلامة والكسل العقلي باختيار الإيمان الموروث‏،‏ دون اعتماد علي الدليل العقلي والتأمل الحر‏.

ينتمي محمد عبده الي تلك الطائفة من الأئمة المستنيرين،‏ الذين يؤمنون بأن النظر العقلي هو الأصل في الإسلام،‏ والعقل عنده مقدم علي ظاهر الشرع عند التعارض‏، يقول الإمام‏:‏ إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل،‏ وبقي في النقل طريقان‏:‏ طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه‏،‏ وتفويض الأمر في علمه الي الله، وطريق تأويل النقل مع المحافظة علي قوانين اللغة حتي يتفق معناه مع ما أثبته العقل‏(‏ المرجع السابق ص‏76).‏

التصالح مع العقل هو الأصل الثاني من أصول المنهج الإسلامي، بعد حرية الإختيار، في الدعوة والحياة،‏ وكل تعارض معه يصبح بمثابة العقبة التي ينبغي العمل علي إزالتها‏.‏

وانطلاقا من هذين الأصلين المتكاملين والمتشابكين‏،‏ حرية الاختيار والتصالح مع العقل، يمكننا أن نصل إلي الأصل الثالث،‏ وبلغة الإمام محمد عبده‏:‏ البعد عن التكفير فإذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الايمان من وجه واحد حمل علي الإيمان‏،‏ ولا يجوز حمله علي الكفر‏(‏ نفسه‏77).

الاختلاف بين البشر، إذن، هو القاعدة السائدة والغالبة،‏ وليس لأحد من المختلفين في الرأي أو الرؤية أن يدعي احتكار اليقين او امتلاك الحقيقة المطلقة. إن الإسلام لا يغلق باب التفكير الحر في وجه الإنسان‏،‏ بل يفتحه أمامه علي مصراعيه‏،‏ والمجتهد في الدين الإسلامي لا إثم عليه فيما اجتهد فيه ولو أخطأ طريق الصواب‏، بل من اجتهد عنده وأصاب فله أجران‏،‏ ومن اجتهد عنده وأخطأ فله أجر واحد‏،‏ فالمصيب يأخذ أجرين علي اجتهاده وصوابه‏،‏ والمخطئ يأخذ أجرا واحدا فقط علي اجتهاده‏، ولا يثاب علي خطئه بل يعذر فيه فقط.‏ وهناك فريق‏،‏ علي رأسه الجاحظ والعنبري من أئمة المعتزلة‏،‏ يري أنه لا إثم علي المجتهد مطلقا‏،‏ وإنما الإثم علي المعاند فقط‏،‏ وهو الذي يعرف الحق ولا يؤمن به عنادا واستكبارا،‏ فالمجتهد المخطئ عند هذا الفريق غير آثم‏،‏ ولو أداه اجتهاده الي الكفر الصريح‏، لأن تكليفه عندهم بنقيض اجتهاده تكليف بما لا يطاق‏،‏ والتكليف بما لا يطاق ممتنع شرعا وعقلا.‏

ويذهب الشيخ محمود شلتوت إلي أن من لم يؤمن بالله ولا برسله ولا بنحو ذلك لا يكون كافرا عند الله يخلد في النار‏،‏ وإنما لا تجري عليه في الدنيا أحكام الإسلام‏، فلا يطالب بما فرضه الله علي المسلمين من شرائع وعبادات‏.(‏ محمود شلتوت‏:‏ الإسلام عقيدة وشريعة ص‏112)‏.

أما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقف عند أن يكون إنكاره لتلك العقائد أو لشيء منها بعد أن بلغته الدعوة علي وجهها الصحيح، ‏واقتنع بها فيما بينه وبين نفسه،‏ ولكنه أبي أن يعتنقها ويشهد بها عنادا واستكبارا،‏ أو طمعا في مال زائل أو جاه زائف‏،‏ أو خوفا من لوم فاسد،‏ فإذا لم تبلغه تلك العقائد،‏ أو بلغته بصورة منفرة‏، أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر،‏ أو كان من أهل النظر ولكن لم يوفق إليها،‏ وظل ينظر ويفكر طلبا للحق حتي أدركه الموت أثناء نظره‏،‏ فإنه لا يكون كافرا يستحق الخلود في النار عند الله‏(‏ المرجع السابق ص‏20).‏ وعلينا،‏ علي ضوء هذا الفهم،‏ والكلام ما زال للإمام الأكبر الشيخ شلتوت، أن نعيد النظر في جميع الآيات الواردة في القتال في القرآن،‏ والآيات الواردة في الحرية الدينية‏،‏ لنعي أن القتال لم يشرع لإكراه الناس علي اعتناق الإسلام كما يذهب البعض ممن أساءوا فهم آيات هذا الدين الحنيف‏،‏ وإنما شرع لحماية الدعوة ومنع الفتنة في الدين كما قرر الجمع الأكبر من علماء المسلمين الثقاة‏.‏

أين تقع أزمتنا إذن، إن الأزمة الحقيقية تكمن في أن بعض الدعاة من التيار المحافظ والتقليدي والذين يملأون فضاء حياتنا اليوم بعد رحيل هؤلاء العلماء العظام، أمثال محمد عبده وشلتوت والصعيدي، يرددون، بلا تبصر، المفاهيم الفقهية التي تصادفهم في كتب أسلافنا العظماء دون أن يتبينوا أن لهذه المفاهيم أصولا تاريخية تعود إليها،‏ وظروفا موضوعية سببت نشأتها، وسوغت وجودها‏،‏ وأدت في ظلها وظيفتها، ثم توقف فعلها في الواقع والتاريخ، فهل نفعل شيئا في مواجهة ذلك النوع من الفهم قبل فوات الأوان، أو أن نقول مثلما قال الإمام وهو يستقبل آخر أيام حياته: ولكنه دين أردت صلاحه.. احاذر أن تقضي عليه العمائم.‏