الأربعاء 24 أبريل 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: 4 ساعات في حضرة الإمام الأكبر

نشر
عبد الرحيم علي

 

مداخلتى أزعجت «الطيب» كثيرًا.. فقد تحدثت بأدلة واضحة حول وجود أسماء محيطة به تنتمي إلى «الإخوان» 
الأزهر أزهرنا وهو «عمود الخيمة» لهذا الوطن مثل الجيش والشرطة
الإمام الطيب يرى أن المشكلة أعمق من وجود منتمين إلى «الإخوان» داخل المؤسسة وإنما فى «كارثة تكفير المخالف»

تلقيت منذ يومين دعوة كريمة من فضيلة الإمام الأكبر، شيخ الجامع الأزهر، لجلسة حوار ضمَّت عدداً كبيراً من رؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية والخاصة.
لم تكن تلك هي الدعوة الأولى، التي أتلقاها من فضيلة الإمام، فمعرفتي بالدكتور أحمد الطيب قديمة، تعود إلى سنوات بعيدة مضت، إبان كان الإمام رئيساً لجامعة الأزهر، قبلها تعرفت عليه من خلال كتاباته وأفكاره المستنيرة التى ضمَّنها أكثر من خمسة عشر كتابا ما بين التأليف والترجمة، بعضها فى المنطق ككتابه «مدخل لدراسة المنطق القديم»، والآخر فى الفقه والتصوف والفلسفة ككتابه «الجانب النقدى فى فلسفة أبي البركات البغدادي»، إضافة إلى ترجماته من وإلى الفرنسية التى يجيدها بطلاقة.
 

عرفت الدكتور الطيب رجلاً مستنيرًا يتسم بسعة الأفق وانضباط المنهج والانفتاح على كل الآراء
لأول مرة منذ سنوات أرى الإمام الأكبر حزينًا ومهمومًا.. يضيق صدره بالنقاش ويحتد وهو يعرض وجهة نظره
هو إمام عصري بامتياز، تعلم وعاش فى فرنسا سنوات طويلة، فتمتع مثله مثل كل الذين تعلموا وعاشوا فترة من عمرهم في الغرب، أمثال رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين ولويس عوض بسعة الأفق، وانضباط المنهج، والدقة في استخدام المصطلحات، والانفتاح على الآراء المخالفة.
ورغم عشرات اللقاءات التي جمعتنى بالإمام طوال السنوات السابقة، فإنني- ولأول مرة- أراه حزينًا ومهمومًا، يضيق صدره بالنقاش، ويحتدّ وهو يعرض وجهة نظره، الأمر الذي أدى إلى مجانبته الصواب- أحيانا- في استخدام مصطلحات عديدة، لعل أهمها وأكثرها حساسية تلك التي تحدث فيها عن «حملة إعلامية منظَّمة تحاول تشويه الأزهر ورجاله».
تعجبت لاستخدام الإمام لهذا المصطلح، لأنني أعرف دقته في استخدام المصطلحات، ولأن مَن أعلنوا عن بعض رؤاههم أو انتقاداتهم للأزهر، خلال الفترة الماضية، هم من المحسوبين على معسكر الإمام «التنويري».
كان الإمام يجلس وعن يمينه شاب لا يتجاوز الثلاثين من عمره، عرفت فيما بعد أنه مستشاره القانونى، وعن يساره جلس نقيب الصحفيين، الصديق العزيز الدكتور ضياء رشوان، وجاءت جلستي بين الزميل العزيز الأستاذ علي السيد رئيس تحرير «المصري اليوم»، والزميل العزيز الأستاذ إبراهيم منصور رئيس تحرير جريدة «التحرير».
تحدث فضيلة الأمام معبِّرًا عن حزنه وألمه من جراء ما يراه من حملة منظمة تقوم بها بعض الفضائيات والجرائد والمواقع، متهمة الأزهر بأنه مخترَق من الإخوان.
وعدَّد الإمام مواقفه التى تصدى من خلالها للجماعة ورجالها إبان حكمهم لمصر، بدءًا من الإصرار على إصدار قانون استقلال الأزهر الذى قُدّم قبيل انعقاد برلمان الإخوان فى 2011 بأيام، والذى لولاه لاخترقت الجماعة الأزهر بالفعل عن طريق إقالة شيخه وتعيين أحد كوادرها بدلا منه بقرار جمهوري. ومرورا برفض الإمام حضور قَسَم الرئيس المخلوع مرسى العياط فى جامعة القاهرة احتجاجًا على سوء المعاملة وتجاوز البروتوكولات معه، وصولًا لموقفه يوم الثالث من يوليو 2013 انتصارا لثورة الشعب المصري وخياره في التغيير، ودعمًا للرؤية الوطنية التى أدت فى النهاية إلى خلع الرئيس الإخواني محمد مرسي العياط، مشددا على أنه وضع رأسه على كفه في ذلك اليوم انتصارا وانحيازا إلى الإرادة الشعبية المدعومة من قبل الجيش.


 

عرض الإمام أيضا مواقف عديدة استخدمها للتدليل على وقوف الأزهر ضد محاولات الجماعة لاختراقه عن طريق زرع العمداء داخل كليات بعينها، أو المفكرين داخل هيئة كبار العلماء، أو التجهيز لخطف دار الإفتاء… إلخ.
لم يكن هذا، حقيقةً، ما ذهبنا لسماعه من فضيلة الإمام، لكننا ذهبنا لنستمع منه إلى إجابات واضحة عما أثارته وسائط إعلامية عديدة حول أسماء بعينها تحيط بالإمام وتعلن أفكارا أقل ما يقال عنها إنها متعاطفة أو متماسَّة مع أفكار ومواقف جماعة الإخوان الإرهابية، التى قتلت وروَّعت المصريين عبر ما يقرب من عامين كاملين، وهو ما قلته بالنص للإمام خلال مداخلتى التى يبدو أنها أغضبت الشيخ كثيرًا، لأنها تضمنت أسماء محددة، ودلائل واضحة حول تلك الأسماء، مثل الدكتور محمد عمارة المسئول الأول عن مجلة «الأزهر»، والشيخ حسن الشافعى عضو هيئة كبار العلماء، وموقفهما الواضح من فض اعتصام رابعة واعتباره مقتلة قامت بها الشرطة ضد مواطنين مسالمين، وتوصيفهما لثورة الشعب فى 30 يونيو باعتبارها انقلابا عسكريا.
أيضا الدكتور محمد أبوموسى عضو هيئة كبار العلماء الذى ما زال يؤكد فى كتابه «شرح أحاديث صحيح البخاري» طبعة مكتبة وهبة «ص 31» أن «كل الشعارات التى يرفعها الإخوان المسلمون هى مبادئنا ولا يستطيع المسلم أن ينكر واحدا منها ولو وُضع السيف على عنقه». والأمثلة، حقيقةً، كثيرة، سواء منها ما يتعلق بالمناهج أو سلوكيات طلاب جامعة الأزهر المنتمين إلى الجماعة الإرهابية، باعتبارهم الأعنف بين طلاب جامعات مصر، أو مذكرات الأساتذة التى تدرّس للطلاب وتدعو للتعصب الذى يصل إلى حد التكفير أحيانا.
ذهبنا نستمع من الإمام إلى إجابات محددة حول السؤال المثار: هل هؤلاء الأشخاص الذين يعملون كمساعدين ووكلاء له ما زالوا على عهدهم بالإخوان، أم أنهم متعاطفون فقط مع قضيتهم، أم هم فقط يتبنون أفكارهم؟ وهل نستطيع أن نسمع منهم أو من الإمام بيانًا شافيًا حول آرائهم تلك؟ صحيح أن النقيب الدكتور ضياء رشوان تحدث حديثا جادًّا حول عدم جواز التفتيش فى ضمائر الناس أو حتى فى كتبهم وأفكارهم، وإلا ذهبنا معًا إلى مكارثية جديدة، كتلك التى اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية فى خمسينيات القرن الماضى تفتيشًا فى العقول والأفكار عن الاعتقادات الماركسية أو الشيوعية، وتم إيذاء مثقفين كثيرين جراء عمليات التفتيش تلك، ولكن صحيح أيضا أننا بصدد دعاة دينيين مسئولين بالأساس عن تشكيل وجدان الناس والشباب بشكل خاص والأهم تشكيل وعى الباحثين فى هذا المجال، وقد ذكرت فى معرض تدليلى على خطورة وجود أشخاص يعتنقون تلك الأفكار فى تلك الأماكن الحساسة، بما حدث معى عام 2004 عندما ذهبت لمناظرة الدكتور عبدالفتاح الشيخ، رحمة الله عليه، رئيس جامعة الأزهر، حول موضوع «عصمة الصحابة» فى حلقة تليفزيونية شهيرة ببرنامج «الاتجاه المعاكس» الذى كانت تبثه قناة «الجزيرة» وقتها، انتهت الحلقة بهزيمة ساحقة لأفكار الدكتور عبدالفتاح الشيخ، باعترافه هو شخصيا، ولكننا ونحن فى طريق العودة إلى القاهرة جاءت جلستي بجانب المتنيح البابا شنودة، رحمة الله عليه، إذ كان يحضر آنذاك مؤتمرا فى الدوحة، وجاءت جلسة الدكتور الشيخ خلفنا مباشرة، وأخذتُ أتبادل أطراف الحديث مع البابا الراحل الأنبا شنودة حول موضوعات شتى، وبعد أقل من نصف ساعة قام الرجل ليذهب إلى دورة المياه، وإذا بى أفاجأ بالدكتور الشيخ يطل برأسه من بين الكرسيين ليقول لى: «ماذا تفعل يا مولانا؟ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم»! فأُسقِط فى يدى يومها، وتأكدت لماذا خريجو جامعة الأزهر هم وقود لهذه الجماعات وبالتحديد جماعة الإخوان، فالرجل عمل رئيسا للجامعة لمدة عشر سنوات، وقبلها كان أستاذا وأستاذا مساعدا، ومدرسا لأكثر من ثلاثين عاما، وخرَّج أجيالا من الباحثين على شاكلته تمامًا.
الغريب أننى عندما ذكرت ذلك المثال للإمام الأكبر للتدليل على أن القضية لا تكمن فى وجود إمام مستنير ومتحضر كالدكتور الطيب على رأس المؤسسة، ولكنها متعلقة بمنهج متكامل يبدأ بالأستاذ الجامعى وطالب الأزهر والمناهج التى يتم تدريسها، رد شيخ الجامع الكبير بأننى أنتقى مثالا وأعممه، لم يسمح الوقت ولا المقام أن أعدد مئات الأمثلة من هذا النوع، أو أن أدخل فى جدل مع فضيلة الإمام حول صحة تلك المقولة، ولكننى استوعبت دفاع الرجل عن قضيته، هو يريد أن يقول لنا بكل بساطة إن القضية أعمق من ذلك بكثير، وإن الأزهر كمؤسسة لا يوجد به فكر متطرف، إذ إنه يقوم بالأساس على مذهب الأشاعرة القائل بعدم تكفير مَن يصلى إلى القبلتين، ويشهد الشهادتين، وهو ما دعا الأزهر إلى التورط فى فتوى عدم تكفير «داعش»، اتساقا مع المذهب الأشعرى، ولكن ما حدث فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى -والحديث هنا ما زال للإمام الأكبر- غيَّر أشياء كثيرة، فموجة الإعارات الخاصة بالأساتذة والمدرسين إلى بعض البلدان التى تتبنى تكفير المخالف فى المذهب وتنحاز إلى مذهب واحد بعينه، أثَّرت كثيرا على هؤلاء الأساتذة والمعلمين، ونشرت بينهم تقليعة جديدة على مستوى المنهج، وهى الانحياز إلى مذهب واحد بعينه على عكس ما تعلموه فى الأزهر وهو الأخذ بالمذاهب الخمسة، ومن حيث الشكل اعتماد مفهوم «المذكرة» بديلا عن الكتاب الأزهرى الذى تربّت عليه أجيال العمالقة، ليستعوض بذلك الأستاذ أو المدرس كتب التسامح والتعددية، بمذكرات التعصب والتنطع.
وضع الإمام يده على لب الحقيقة تماما، ولكن دون اعتراف واضح أو صحيح بأن تأثير تلك السنوات ما زال مستمرا ويحتاج إلى ثورة حقيقية لكى يتم معالجة تأثيره فضلا عن آثاره. قضايا عديدة تناولها الأمام الأكبر حقيقة، لا نستطيع تعديدها هنا فى هذا المقال، ولكن من أهم ما قاله الرجل إن مجهودات خارقة تُبذل فى إطار التطوير والتحديث منها إلغاء موضوع المذكرات الجامعية السابق الإشارة إليها، واعتماد الكتاب الأزهرى القديم، وإن كان مشكلة شرح ما بداخله ستظل موجودة وتعتمد بالأساس على طريقة فهم الأستاذ لتلك الأفكار وموقفه منها، كذلك قضية البعثات التى يهتم بها الإمام اهتماما كبيرا ويقوم بتغيير جذرى فى طرق اختيار المبعوثين فى محاولة لوضع نهاية لعصر كامل من الاختيار على أساس الأقدمية، تلك الطريقة التى أساءت إلى مصر والأزهر بقدر ما كان يجب أن تقدم من إفادة، وقضايا أخرى عديدة.
ولكن يظل السؤال الذى خرج اللقاء والإمام ما زال متوجسا تجاه إجابته: هل هناك حملة منظمة تهدف للنيل من الأزهر ورجاله؟ وأقسم بالله العظيم، غير حانس، أن تلك الحملة بمفهومها السابق الإشارة إليه لا توجد إلا فى ذهن المحيطين بالإمام ممن تطالهم تلك الانتقادات، فالأزهر أزهرنا وهو ليس إحدى أدوات القوة الناعمة التى تتحرك بها مصر فى الخارج وفقط، وإنما هو عمود خيمة لهذا الوطن، مثله مثل القوات المسلحة والشرطة وقضاء مصر العظيم، بل فى اعتقادى أنه يفوقها جميعا فى التأثير والفعل.
كل التقدير لأزهرنا الشريف، وكل التبجيل لشيوخه العظام، وكل الاحترام لأساتذته، فقد تعلمنا منهم سماحة ديننا، فقط ليعذرونا فى انتقادات كانت ومازالت ضرورية لتصحيح منهج وعودة إلى أصول تعلمنا منها وتربينا عليها، فكان الأزهر بهذا المفهوم وسيظل مدرستنا الأولى وقبلتنا التى لا غنى عنها، وكلها جاءت من منطلق الحب لأزهرنا والغيرة عليه.