من أرشيف عبد الرحيم علي
أبويا الذى لا يحتاج إلى تعريف
لم يغب أبي قط عن عيني، حتى وإن سافر هو هنا في كل مكان، ليس فقط لأنه «أبويا»، لكن لأنه الوحيد الذي تطابق معه خيالي بالواقع.. لأنه فتى أحلامي وحبيبي، فأبي كان دائمًا بطل كل الحكايات.
كنت وأنا صغيرة أعشق أن أرى لهفته علىَّ في عينه، فأتظاهر بالإغماء، لم أكن حينها أدرك أنني أخلع قلبه من صدره، فقط كنت أود أن يظل بجانبي وأستمتع بحبه.
كان مدرسي في الصغر وفي الكبر، كان الشاعر الذي اختطفتني أبياته عن الحب وأنا أحلم بفارس العمر، كان هو البطل الخارق الذي لا يقف أمامه شىء، ثم كان زميلي وأستاذي والإجابة التي أبحث عنها في مراجعي العلمية.
كان يبدل روحه حسب حالتي المزاجية، يغزل حكايات للتسلية ونكات إذا ما عبست ويصنع لي دواء إذا مرضت، يركب جواد الخيال معي، حيث لا شىء مستحيلًا، يملك البساط السحري، أستطيع وأنا بجواره أن أرى العالم كله.
أعرف جيدًا كم تعب أبي وبذل الكثير والكثير ليصنع اسمه ويصنع لنا الدفء والأمان وما زال يحتضننا ويحمينا من تقلبات الأيام كما لو لم نكبر وكأننا ما زلنا صغارًا، في كل مرة ألقي بروحي بين أحضانه أشعر أنني لم أبرح شقتنا في المٌقطم بضفيرتي الصغيرتين وببكاء إذا خرج وفرحتي إذا عاد معي، أستعيد ملامح وجهه وهو يتصفح كراساتي ويكمل لي درجاتي التي أنقصتها الأيام ويضع لي نجمة ممهورة بتوقيعه.
أعشق كلمة حبيبتي منه وأعشق وصفه لي بـ«بنت أبوها»، فأنا روحي مربوطة بروحه، وأفضل جائزة وأفضل من كل الدرجات العلمية حين يقول لي كل الناس من حولي «أنت بنت أبوها»، ذاك الأب الذي لم يكلفني عناء البحث عن قدوة لأبنائي، فسيرته نجاح، وأثره منحوت في الأرض، حيث سار بتؤدة وإصرار نحو حلمه، فيلسوفي المفضل وصاحب المواقف والأقوال المأثورة في حياتي، التي تحتاج مجلدات لأدون فيها ما يقوله أبي، فما رأيت الصبح إلا في عينيه، وما عرفت حلاوة الماء إلا من كفه، وما شعرت بالأمان إلا وأنا بين ذراعيه، أبي الذي لا يحتاج لتعريف ولا شرح، فيكفي أنا أقول اسمه وكأنه وُلد علمًا.
أكثر من مواجهة كانت بين أبي والموت أنجاه الله منها رأفة بقلوبنا، بعد كل مرة كنت أبكي وأقول لو كان لي ألف قلب لنزعت كل يوم قلبًا وصنعت منه له نعلين، لو كنت أملك وهب السنوات لوهبته عمري مئات المرات، لو كنت أجيد كتابة الشعر لكتبته قصيدة عشق، ولو كنت طبيبة لوصفت ابتسامته دواء للثكالى والضعفاء، ولو كنت نجمة لرسمتك سماء، لو كنت بلا حدود لالتقيتك بعد المدى.
أيكفيك أن أقول لك إني أحبك!
أنا لا يكفيني آخر مدى لذاك الحب، فأنت حيث تخطيت ذاك الشعور وذاك المعنى.
فسلام عليك يوم مولدك.