الثلاثاء 08 أكتوبر 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبد الرحيم علي "المُمكن المُستحيل"

نشر
تامر أفندي
تامر أفندي

أسأل نفسي كثيرًا هذا السؤال وأنا أتحسس قلمي لكي لا أقتله خشية إملاق، لذا أكبح كثيرًا جماحه كي لا يؤخذ عليه البوح فيفسره البعض زيفًا، لكنني أعود وأسأل نفسي لماذا لا أحب وأقول أني أحب مَن كان معي إنسانًا؟ مَن لم يخذلني حتى بت مطمئنًا أنه لن يخذلني. 
بعد أول لقاء لي مع الرجل قال لي أحد الزملاء: "وأنت مروح هيقابلوك في البلد بالزمر".
تبسمت في وجهه وكنت أُشفق عليه، فبعض الزملاء ممَّن يمتهنون الصحافة يتكبدون العناء من أجل أن تلين لهم الكلمة وأنا أتدلل عليها، تأتيهم بعد إلحاح وتأتيني بلا داع.. يضعون الحجارة عند السلم الخلفي ليشاهدوا انعكاس ظلها، وبعضهم يرتدي ملابس العمَّال ليدخل من الباب والبعض يأتي في الغياب لأنه في الحضور لا حضور له، والبعض يكسب في ورق اليانصيب، والبعض يُكذب القلم والورقة ويُصدق نفسه فترى الكثير من مدعي النبوة رجالًا كانوا أو نساء، والبعض يكتسب الصفة بحكم الأقدمية.

أنا أقول هذا ليس تفاخرًا ولا تقليلًا من ذاك الزميل الذي أذكر الكلمة ولا أذكره، ولكن ثمة ربط في هذا بيني وبين صاحب الحكاية، فكلانا شربنا من نفس المنهل من مدواة الكتاتيب وسلسبيل آيات القرآن من معاني الكلمات المُعلقة كقناديل في ليال الشتاء القارسة في القرى، من نهوض البشر قبل الفجر ومن نهود الأيام البكارى وهي تغسل ساعتها قبل الغسق.

رُبَّما أحببت الرجل لأنه كان النصف الآخر من حكايتي مع القمر حينما حدثته عن أحلامي في المدينة قبل أن أحزم حقائبي وأغادر القرية، ورُبَّما كنت أنا واحد من مستقبليه في قريته حينما كنتُ أزورها معه.

منذ حين فقدتُ عودة أبي من العمل بعد غياب فخرجتُ أنتظره، فإذا به يُعطيني ما تخفف منه أبي قبل السفر، رُبَّما كان هو حينما يموج كالبحر من الغضب ثم يهدأ دون أن تسقط ورقة من ربيع صفحه في خريف الضجر.

وربما هو تلألأ الدموع في عيون السماء حينما تٌحاصرها السُحب، ربما تشاركا في مسبحة اشترياها من شيخ العرب فتعانقت براجم إصبعيهما.. ربما.

وربما أراد الله أن تُزهر بذرة الخير في قلبي  فجعل الصُدفة تُفرق سياج الحديد حتى أنفذ للمروى.

ربما أراد الله لي أن أدخر ذهبًا في أُقصوصات أوراقي حتى إذا ما ضرب الفقر الذكريات وصار التاريخ شحاذًا يمد يده أعطيته ما كان يومًا واكتنزته، فأنا لا أرمي الحرف حتى وإن تبدَّلت حالاته. 
ربما كان اللغط حول الرجل هو مَن استفزني للولوج في الحكاية فما بين مُعجبٍ يهتف بحبه وبين غاضبٍ يقذفه بالحجارة، جماهير كثيرة ما زالت تسأل عن الحكاية!.
ربما دفعت الباب دون ضرب الجرس ورغم الحرس لأرى صورته من غير الشاشات والمناسبات و"الاستريبات" والدبلاجات.. فأنا تربيت على أن أشاهد الأشخاص قبل المونتاج لا بعده، أشاهدهم أبيض وأسود أشاهدهم من بؤبؤ عينيَّ لا من المناظير والمُكبرات.

رُبَّما أعجبني فيه تلك الحقيبة السحرية التي يحملها دائمًا معه دون أن تراها، يُخرج منها جلبابًا وحصيرًا إذا ما جاءه ضيفًا يُحب براح الريف، يُخرج من حقيبته حُلة ورابطة عُنق وقصائد منسية.. 
يتغزل ويبكي ويتعبد في محراب حبيبته، يُصلي حيث يكون الله على ضفاف النيل وعلى جبل الطور وفي حُضن أمه.. في الكنيسة المرقسية، والجامع الأزهر، وعلى روق البردي، وفي الأهرامات، يسمع تراتيل مصطفى إسماعيل، وعبدالباسط عبدالصمد، والمنشاوي ومحمد رفعت، ويقرأ السيرة العطرة للبابا كيرلس، والشيخ عبدالغني النابلسي ومحمد عبده.

بين الحين والآخر يُجبرك على مد يدك إلى قلبه لتتأكد أن كل هذا الزيف لم يصل إليه ولم يُغير نبضه.
يُخرج من تلك الحقيبة المواقف والكُتب والكُتاب والأشعار والأشخاص وعلى صفحة بيضاء يمزجهم كلهم ببعضهم فُيرتب حكايات تجعل الشغف يجذب كرسي ليجلس مُستمعًا فلا هو يكف ولا الشغف يمل.

يخرج من حقيبته نعيًا حفظه من الخال لصديقه لامبو الذي لم يرَه، وتُردد بناته من خلفه:
الجيتار يعشق زحام الأسطوات
والأغاني بتتولد في الغلبانين والغلبانات
عمو لامبو
قضى عمره في الحارات والخمارات
كان يحب الشمس
والناس
والغيطان
والجيتار
وقطته
أول الناس اللي تحفظ غنوته
كان يغني بألف صوت
يا قمر 
يا رغيف بعيد
النهارده الحدّ.. عيد
الفقير ليه مش سعيد؟!
والغناي ليه مبسوطين؟
يا قمر يا أبو عمر لسه
العباد ع الحانة كابسة
عاوزة تنسى
عاوزة تنسى
والغناي لو يسكروا
يبقى لجل يفكروا
يسرقوا م المسروقين؟
لامبو كان شاعر مغني
يمشى والجيتار عشيقته
يلمسه
يملا ليل إسبانيا بفصوص الأمانى والأغانى البرتقاني
عمو لامبو قضى عمره فى الحارات والخمارات
كان يغنى للعيال المقروضين
كان يغنى للأرامل
والغلابة
والسكارى
السكارى اللى يعودوا من جحيم الحر فى المنجم
السكارى اللى المحاجر حوّلتهم زيّها
أزمة وحجارة

ينهمك في عمله يُذاكر ويتابع الأخبار ويرد على العالم كله في آن واحد دون رسائل مُسجلة، ثم ينهض ينظر إلى البحر عبر نافذته يتحدث إلى شخص هناك عند نقطة التقاء الماء بالسماء:
أراك بكل المرايا على صهوة من ضياء
وتخرج منها فأذهل أنك أكثر منا حياة
ألست الحسين بن علي وفاطمة!
لماذا الذهول؟
قد تعلمت منك ثباتي
وقوة حزني وحيدًا
ولم يكن أشمخ منك
وأنت تدوس عليك الخيول

تُغريه عواصم العالم تفتح ذراعيها له كل مساء تستقبله ضاحكة فتدمع عيناه، يجلس على كورنيش النيل مستندًا بظهره على برج القاهرة ويكتب بيده على صفحة السين في باريس أنا من هناك حيث كانت براءتنا مخبأة فى كتاب الحساب، وكان الحلم يسبقنا أشعث الشعر والروح، يلهث من حيرة ونحن وراء لهاثه نبكى ونضحك مختلطين بدفء الذكريات وبريق الأمنيات.. يدندن ويدندن 
حتى يسافر صوته مع الرياح لكل مكان كان فيه 
ويا مصر وإن خيروني 
ما أسكن إلاكي
ولجل ما تتبسمي
ياما ببات باكي
تسقيني كاس المرار
وبرضه بهواكي
بلدي ومالي إلا إنتي ولو ظلمتيني
مقبولة منك جراح قلبي ودموع عيني
الجرح يشفى إذا بإيدك لمستيني
كلك حلاوة وكلمة مصر أحلاكي

يُخرج من حقيبته ألبوم صور يحكي عن إبراهيم فتحى، وبشير السباعى، وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى وإبراهيم عبدالمجيد والمخزنجى، وحلمى سالم ورفعت سلام.
يتأمل في وجه رفعت السعيد ثم يضع ألبومه ويخرج ليرد على نداء محمد هاشم: هناك حيث يُجمع عناوين مكتبته وسنوات عمره حيث الجبرتى وابن إياس والرافعى وصلاح عيسى وعبدالعظيم رمضان وطارق البشرى ورفعت السعيد وإسماعيل صبرى عبدالله وفؤاد مرسى وإبراهيم سعد الدين وميلاد حنا وطه حسين وعلى عبدالرازق ولويس عوض.

في هذه الحقيبة عِمامة أبيه الشيخ وصور لرموز اليسار وأدعية السفر وحبات من ثرى الوطن وزجاجة عطر من جبين أمه جمعه حينما كان قلبها يركض خلفه ليدفع عنه الموت.
في هذه الحقيبة مٍظلة لعابر أتعبه السير، وكف من زاد وكف من ماء، وقلم ومدواة حبر وعنوان بريد لمَن تاه.
في هذه الحقيبة قناديل لآمال غالية الثمن فالمدفوع فيها ست عقود من الزمن يجعلها مؤونة لبناته وابنه وللقاصدين قلبه، فإذا ما أطفأت الدنى قنديلًا أشعل لهم آخر حتى ينعس محبيه دون قلق على جدار الزمن. 
ذات مرة ونحن نقطع الصحراء بين الجبال فتحت نافذة السيارة وجريت من جواره أرى موكب سياراته من الأمام، وسألت نفسي لماذا لا يأخذ هذا الموكب نفس الرجل إلى الكِبر؟
فسألته كيف؟ 
قال لي في حميثرة سوف ترى.
قطعنا الطريق طويلًا.. شربنا كأس من نهوى جهارًا.. غمضنا الحال والكيسان تجلى.. ظننا أن في الكيان نارًا.. مشعشعة لها نور عظيم ولا للقلب عنها اصطبار شربنا نقطة منها فهمنا. 
هناك.. على حُميثرة كانت تُسلم النفحات من أستاذ لتلميذ صار أستاذًا لأستاذ كان تلميذًا لأستاذ كان أستاذًا من السماء ومن حُسن التعلُّم الإنصات في حضرة الأولياء.. 
قرأتُ بطاقة الرجل هناك اسمه ومحل الإقامة، عرفتُ كيف ينادى وبما يُنادى ومن أين يأتي بمدده ومداده، وعرفتُ أن الله يصنع السعادة والبعض يُوهب السعادة وينتقى أولئك الذين يأخذونها من يد الله إلى قلوب الغلابة.
عرفتُ مع الرجل هناك حيث ينام السادة أن الضريح ليس ضريحًا لكنه "بنك فرعي" لصرف المدد وتغيير السيئات بالحسنات مربوط ببنك مركزي في مكة والبقيع وهيئة في السماء فإذا أردت الزيارة والاستزادة فعليك التصدق كعبادة.
على جدار الولي قرأت أحرف فعدتها عليه فاستزاد: "منا من اختصه الله بعز.. لا بكثرة صيام ولا سهار".
فكيف؟
قال لي أتُحبني؟
قلتُ له لقد أوحى الله لنبيه ألا يجالس إلا العُشاق وأنا أحب أن أكون منهم.
قال لي: أيهما أصدق في الطاعة؟ مَن أطاع الملك في الغيب أم مَن أطاعه في الحضور؟
قلت له: في الغيب
فقاطعتنا امرأة في الحضور
نحيبها أفصح عن قسوة حزنها: والنبي يا باشا.. يُلجم البكاء لسانها ثم ينازع الكلام اللجام: والنبي يا باشا.
يطوي حديثنا وينهض يدنو منها: بالراحة كده وقوليلي مالك؟
تقول: يا باشا أنا من دسوق زرت سيدنا إبراهيم وقولتله وجيت بآخر فلوس لستنا أم العواجز هنا وستنا نفيسة، ابني وحيد محبوس وقلبي بيتخنق.
جذبها من يدها وجلس وجلست بجواره: "اهدي بقى وقوليلي إيه الحكاية وكله هيتحل بأمر الله".
بعد يومين كنت في دسوق عند الدائن ومع قيمة الدين، كان الرجل يضرب كفًا بكف ويتعجب من الحكاية وسألني عن صاحب العطاء؟ قلت الله، قال ثم مَن؟ قلت الله. قال ثم مَن؟ قلت الله.. قال مَن أرسلك بالمال؟ قُلتُ ساعي خير حفظ النعمة بالشُكر.
قرأتُ الفاتحة وقبل أن أعود هاتفني قائلا: سددت الدين؟
قلت: نعم.
قال لي: لا تتحرك قبل أن تُنهي الإجراءات وترى الابن في حضن أمه، هنا يكون دورنا انتهى.

للحديث بقية عن "عبد الرحيم علي" ذاك المُمكن المُستحيل.