الجمعة 29 مارس 2024

من أرشيف عبد الرحيم علي

عبدالرحيم علي يكتب: بعد أن قدم الأئمة الكبار إنجازهم العلمي.. اغتيال التجديد الفكري في الإسلام

نشر
عبد الرحيم علي

ظل مقولة عمر بن الخطاب "من رأى منكم فِى اعوجاجًا فليقومه‏" من المقولات الخالدة التى وضحت كيف يكون الحاكم

-         ‏ احترام حرية الرأى لدى علي بن أبي طالب ظهرت بعدما طعنه أحد الخوارج وأشار عليه البعض‏ ‏بأن يأخذ البيعة لابنه الحسن ‏قال "لا آمركم ولا أنهاكم"‏ لأنه لم يكن يرى أن يفرض ابنه بالقوة على المسلمين‏

-         تعرضت قيم حرية الرأى والتعبير لانتكاسة وانتقاص مع بداية العصر الأموي

-         مع حكم الأمويين ظهر الكهنوت فى الإسلام واختلطت عن عَمْد مفاهيم الدين بأهداف السياسة‏.. ‏وتراجع احترام الحكام لإرادة شعوبهم‏ وتفشى الكبت والقهر الفكري والسياسي والمذهبي

أظهرت الحلقات السابقة‏،‏ أن قضية حرية الرأى والتعبير،‏ حقوق إنسانية ثابتة ومصانة ومؤكد عليها من خلال القرآن الكريم وسنة الرسول محمد - "صلى الله عليه وسلم"- التى اتبعها خلال ما قام به فى الدولة الوحيدة التى أقام دعائمها فى المدينة وحكمها بنفسه طيلة عشر سنوات وتجلى لنا أن هذه الحرية هى حق لكل إنسان طالما أنه لم يعتدِ على أحد وآثر أن يعيش في سِلم.

وكان الخلفاء الراشدون،‏ فى طليعة من جسدوا‏ جوهر الفكر الإسلامي، ومن المنطقى أنهم أولوا لحرية الرأى والتعبير مكانة سامية تتمثل فى كثير من مواقفهم العملية..‏ يظهر احترام أبي بكر الصديق لقيمة حرية الرأى والتعبير،‏ والالتزام بالشورى،‏ في خطبته الأولى بعد البيعة‏..‏ وتأتى كبرنامج سياسي للحكم، حيث قال فى تلك الخطبة ـ "البرنامج‏":‏

أما بعد‏.. ‏أيها الناس،‏ فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم،‏ فإن أحسنت فأعينوني،‏ وإن أسأت فقوموني،‏ الصدق أمانة‏، والكذب خيانة‏،‏ والضعيف فيكم قوي عندى حتى أرجع إليه حقه إن شاء الله،‏ والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله‏، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل،‏ ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلا عمهم الله بالبلاء،‏ أطيعوني ما أطعت الله ورسوله،‏ فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم‏.‏

وهذا المفهوم لأسباب الطاعة لم يكن مشهورًا لدى العرب قبل أن ينطق به الصديق،‏ ليؤسس به أولى لبنات الحرية فى العلاقة بين الحاكم والمحكوم بعد أن كانت تقوم على الغلبة والبطش‏، إن الالتزام بمفاهيم حرية الرأي،‏ لم يكن معهودًا‏، في الدولتين اللتين كانتا تحكمان العالم آنذاك ‏(‏دولة الفرس‏ ودولة الروم‏).

حرص أبو بكر على توسيع دائرة المشاركة فى الشورى وظل حرص أبي بكر فى خلافته على استشارة المسلمين حتى قبل وفاته حينما حرص على التشاور فيمن يتولى خلافتهم بعده‏.. ‏ولم يحدد رجلًا بعينه وإنما ترك الأمر لجمهور المسلمين فلما وقع اختيارهم بالإجماع على عمر بن الخطاب أوصى به خليفة للمسلمين.‏

حرص عمر فى حكمه على التشاور،‏ والسعي الجاد لسماع كل الآراء‏..‏ والخضوع لأي رأي يراه صوابًا، وقد ظلت عبارته المشهورة ‏(‏أصابت امرأة وأخطأ عمر‏)‏ يرددها القاصي والداني.

لا يضيق بالنقد، يوجَّه إليه من أى فرد‏، ‏وقد خطب في الناس عقب توليه الخلافة:‏ من رأى منكم في اعوجاجًا فليقومه‏، فقام رجل‏:‏ لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا‏.‏

فقال عمر‏:‏ الحمد لله الذى جعل فى المسلمين من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه‏، ‏ثم خطب يومًا فنهى عن التغالي في المهور‏، ‏فقامت امرأة فقالت أنصدقك يا عمر أم نصدق قول الله "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا"‏ فقال‏:‏ صدق الله وكذب عمر‏، أو أصابت امرأة وأخطأ عمر‏.‏

رافق على بن أبى طالب الدعوة الإسلامية منذ بدايتها‏.. ‏فقد أسلم وهو صبي في العاشرة من العمر‏.. ‏أظهر تعففًا عن الأخذ بزمام الحكم عندما دعى إلى ذلك لأنه كان مقتنعًا أن الولاية يجب أن تكون عن طواعية ليكون الحكم لا طغيان فيه‏..‏ وظل على موقفه حتى بايعه الناس‏.‏

وعندما أشار عليه البعض‏ ـ بعدما طعنه أحد الخوارج ـ‏ بأن يأخذ البيعة لابنه الحسن‏.. ‏قال لا آمركم ولا أنهاكم‏، ‏لأنه لم يكن يرى أن يفرض ابنه بالقوة‏، ‏بل كان يرى أن لهم حقًا في قبوله أو رفضه‏، ‏ ولم يقف أمر "علىّ" عند هذا الحد وإنما امتد احترامه لحرية الرأي إلى أن قال مقولته الشهيرة ‏ـ عندما دعي إلى تحكيم القرآن في خلافه مع معاوية‏ ـ إنما ينطق به أفهام الرجال‏، فى إشارة واضحة لا لبس فيها إلى احترام الرأي والرأي الآخر وإن كان الجميع ينطق بالقرآن‏، ‏مقرًا بأن ذلك يظل فهمه له وليس شيئًا آخر‏.‏

تولى عمر بن عبدالعزيز خلافة المسلمين وقد لحق بالحكم الفساد فسعى لإصلاح أحوال الحاكم والمحكومين وأصلح وعاد للعمل بالشورى مقدمًا أهل الرأى والخبرة على أهل الثقة وكذلك كان سعيه لإنصاف طوائف الأمة على اختلاف أجناسها فأرضى بهذا المخالفين فيها قبل الموافقين وقضى على الفتن والثورات الداخلية‏.‏

أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وعمر بن عبدالعزيز ممن أدركوا ما يدعو الإسلام إليه من مبادئ، وحرصوا على التنفيذ العملي لما يدعو إليه الدين‏، ‏متكئين في سلوكهم على الوعي بما يبشر به الإسلام في أصوله النقية‏.‏

لكن هذه القيم تعرضت لانتكاسة مع بداية العصر الأموى وقد جاءت هذه النكسة فى سياق جملة من النكسات السياسية والفكرية والفقهية شهدها التاريخ الإسلامى‏، ‏عندما تحولت الخلافة من نظام مبني على دعامتَي العدل والشورى إلى نظام "كِسْرَوى" مبنى على الظلم والاستبداد‏.‏

فكانت المصادرة الفكرية وظهر الكهنوت فى الإسلام واختلطت عن عمد مفاهيم الدين بأهداف السياسة‏.. ‏وتراجع احترام الحكام لإرادة شعوبهم‏، ‏وتفشى الكبت والقهر‏،‏ وتعاظم دور السلطة على حساب حقوق المواطنين‏.. ‏وضاق الحكام بحرية الرأي والتعبير‏، ‏وعمدوا للحفاظ على مكاسبهم وسلطانهم للتضييق على من يخالفهم‏.. ‏واستخدموا من رجال الدين من يبرر لهم أفعالهم وسياساتهم‏، ‏وكان لذلك أثره العظيم في تدشين حالة من الجمود الفكري والفقهي.‏

فبتقلص مساحات العدل والشورى تقلصت مساحات الفكر والرأي.. ‏وتأسست مدارس ومناهج إغلاق أبواب الاجتهاد الفكري.

لكن هذا المناخ الذى بدأ فى الظهور مع تأسيس الدولة الأموية‏، حيث المصادرة والمؤامرة والكبت لم يمنع من ظهور علماء ومفكرين يسعون للعودة للمفاهيم الإسلامية القائمة على قيم الحرية والعدل‏، ويردون للفكر الإسلامى.‏

وباتت قضايا الاجتهاد والإصلاح مطروحة على الفكر الإسلامى تشهد زخمًا أحيانًا وتحقق بعضًا من طموحاتها‏..‏ وتشحب وتهزل وتنزوي في أحيان أخرى.‏

وقبل استعراض بعض اجتهادات المجددين‏، ‏نتوقف أمام ملاحظتين‏:‏ الأولى‏:‏ إن هؤلاء الذين توقفنا عندهم ليسوا كل الجديرين بالدرس‏ نظرًا للمساحة، ومن ناحية أخرى لأن الأسماء المختارة بمثابة عينة تصلح للتعبير الدال عما يهدف إليه البحث‏.‏

الملاحظة الثانية‏:‏ إن العرض التحليلى لمن نتوقف عندهم لا يشمل جميع جوانب اجتهادهم‏ فقد آثرنا أن ننتقى ما نرى أنه مهمًا، والحصيلة النهائية تتجاوز الأفراد إلى الفكر الإسلامى ‏وكلهم منتمون إلى هذا الدين‏.‏

أولاً‏:‏ المجتهدون القدامي

‏1‏ ـ أبو الحسن الأشعرى‏:‏ أكد فى سلوكه وحياته على مبدأ واجب وحق الإنسان فى تعديل فكره والعدول عن رأي إذا اكتشف خطأه‏، وأكد الأشعرى فى سلوكه وفكره أهمية التطور الفكري وعدم الجمود والبحث عن المشتركات فى الأفكار المتباينة وتقريب الآراء ووجهات النظر وقد قاد التطور والانفتاح على مجمل الأفكار الأشعري لتعزيز مفهوم التسامح الديني..‏ وهو من أهم الملامح التى يمكن رصدها في كتبه‏.

‏2‏ـ الفارابى..‏ المعلم الثاني

صاحب الفضل الأول على الفلسفة الإسلامية لأنه هو الذي وضع أساسها‏، ‏ورتب مسائلها‏، ويعتبر أول فلاسفة الإسلام على الحقيقة‏، ‏ ولقب بالمعلم الثاني‏،‏ كما كان أرسطو المعلم الأول‏..‏ أجاد اللغات التركية والفارسية واليونانية والسريانية والعربية‏..‏ وكان له جهد في تأسيس الفلسفة الإسلامية فجمع ما ترجم قبله إلى العربية من علوم الفلسفة وهذبه ورتبه‏..‏ وكان ينظر في المسائل والآراء الفلسفية المختلفة بنظرة المجتهد‏، ويدعو إلى الحقيقة ولو خالفت رأيه أو رأي أرسطو‏..‏ كما سعى لإصلاح آلية الحكم الإسلامى من خلال كتابه ‏(‏آراء أهل المدينة الفاضلة‏)‏ حث فيه على أهمية حرية الرأي والاعتقاد باعتبارها السبيل الوحيد لنهضة الأمم‏.‏

‏3‏ـ ابن سينا‏‏ "الشيخ الرئيس"

انشغل منذ صباه بالقراءة ثم التأليف والتعليم.. وفي زمنه كان العباسيون يحاربون أي فكر يخالفهم..‏ ويناوئون الفلسفة ويتهمون الفلاسفة بالميل لأفكار أعدائهم الفاطميين ويرمون من يخالفهم بالكفر‏..‏ لم يرهبه هذا المناخ ودرس الفلسفة ورفض الجمود والإرهاب الفكرى وخرج من دائرة التقليد إلى براح التجديد‏..‏ وقد حرص على التعامل الموضوعى العاقل مع الآراء والأفكار‏..‏ واجتهد في إصلاح الفلسفة الإسلامية واستحق لقب الشيخ الرئيس‏..‏ وقد حكم على أصحاب الجمود بالكفر‏..‏ ولكن ذلك لم يمنعه من الإخلاص للفسلفة وآراء الفلاسفة‏.‏

‏4‏ـ ابن رشد

درس العلوم الدينية والعربية والفلسفة دراسة دقيقة حتى امتاز عن كل من قبله من الفلاسفة، ‏فاستحق أن يعد من أئمة الفقه‏، ‏ كما يعد من أئمة الفلسفة‏..‏ أطلق عليه فلاسفة أوروبا في أوائل عصر النهضة لقب "الشارح‏"..‏ لأنه كان أفضل من شرح فلسفة أرسطو‏..‏ أدرك أنه لا عداء بين الفلسفة والدين‏،‏ لكن أنصار الجمود تآمروا عليه وحاربوه واتهموه بالكفر‏، لمخالفته آراء أصحاب نظريات الجمود ورد الاعتبار للفلسفة‏،‏ التى أهدرها الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة‏، فكان كتاب ابن رشد تهافت التهافت الذى أبطل فيه مزاعم الغزالى عن كفر الفلاسفة‏، ‏وكان رأيه بأنهم مجتهدون يثابون إن أصابوا ويعذرون إن أخطأوا‏،‏ ثم كان كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) أكد فيه أنه لا خلاف بين الفلسفة والشريعة، وأعلى ابن رشد من قيمة العقل وحرية الفكر وهو القائل‏:‏ إن الشريعة الخاصة بالحكماء هي الفحص عن جميع الموجودات‏،‏ إذ كان الخالق لا يعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة التى هي أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه‏.

5‏ ـ نجم الدين الطوفي

جاء الطوفى، ‏الفقيه الحنبلى بمبدأ صارم قضى على الأسلوب المراوغ الذى عالج به الفقه السلفي المصلحة وكان يفتئت عليها ويضيق بها كأن يقول إن الشرع يأخذ بالمصلحة ثم يعود ليقول إن المصلحة الحقيقية هى فى الشرع‏!.‏

فتح الطوفي هذا الباب الموارب على مصراعيه وأعلنها صريحة أن المصلحة هى المقصد الأسمى الذى يجب الأخذ به إذا حدث تعارض ما بينه وبين النص أو الإجماع.‏

وأكد الطوفى أن الأخذ بالمصلحة عند التعارض بينها وبين النص لا يتأتى من باب الافتئات على النص‏،‏ ولكن من باب تأويله ولا يقال إن الشرع أعلم بالمصالح‏،‏ فلتؤخذ من أدلته لأننا قررنا أن رعاية المصلحة من خصائص الشرع وهى أقواها وأخصها فنقدمها فى تحصيل المصالح‏.

فى الطوفى نجد المعالجة الصريحة الجذرية لقضية المصلحة ونجد الإقامة الأصولية لها على أسس شرعية لأنه انتهى إلى مبدئه عن طريق تفسيره لحديث "لا ضرر ولا ضرار" وقد أثارت آراؤه ثائرة الفقهاء منذ أن قال بتقديم المصلحة.‏

‏6‏ـ ابن خلدون

عند ابن خلدون نجد الرجل الوحيد الذى تحرر من روح عصره واستطاع تحكيم العقل والمنطق فيما تركه الأسلاف‏،‏ عقلانيته غلبت روح عصره واستطاع بهذه الصفة أن يرسى نظريته فى الحضارة والعمران‏..‏ وأن يقرر أن الحكم يقوم على العصبية وأن حكم الرسول والخلفاء الراشدين كان استثناءً ولا يمكن إدراجه فى صنوف الحكم ثم تعرض لأكبر سببين يؤديان إلى تدهور الحضارات وهما ظلم الحكام وترف المترفين‏، وأن هذين هما حصيلة لمبدأ قيام الحكم على العصبية أو الغلبة‏، فكأنهما لصيقان بالحكم‏.‏

هذا بالإضافة إلى ما تضمنته المقدمة من تعقيبات لكل ثقافات عصره سواء كانت فى الفنون أو الآداب.

وقد كسب الغرب من ابن خلدون واستعاد آراءه كما استفاد من ابن رشد من قبل‏..‏ وكانت بلاده وأهله هم آخر المستفيدين منه‏،‏ بل إن فكرته عن الدولة كان يمكن أن تنقذنا من غوائل الحاكمية الساذجة إذا كنا قد أوليناها اهتمامًا كافيًا‏.

الأسماء السابقة تمثل بعض النماذج المضيئة فى تاريخ الفكر الإسلامى، والعرض الموجز الذى قدمناه يستهدف تسليط الضوء على بعض القيم والمفاهيم العصرية التى ينبغى التسليم بها والإفادة منها‏:‏

‏1‏ ـ التسامح الدينى مقولة قائمة في التراث الإسلامي‏، ‏وليست معطى عصريًا منقطع الصلة بما كان‏.‏

‏2‏ـ حرية الرأي والاعتقاد من الركائز المهمة التي توقفت أمامها الفلسفة الإسلامية‏.‏

‏3‏ ـ التجديد الفكرى ضرورة‏، ‏ومسايرة روح العصر من الحتميات التي يهتم بها التراث الإسلامي.‏

‏4‏ ـ المصلحة الإنسانية هى الهدف الأسمى‏، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لإعمال العقل من ناحية والإيمان بحرية الفكر وحق الاجتهاد من ناحية أخرى.‏

‏5‏ـ التراث الإسلامى جزء من التراث الإنسانى العام‏، وإذا كان الغرب قد أفاد منه تمهيدًا لصعوده وازدهاره‏، فلا حرج من أن يفيد المسلمون المعاصرون من التراث الغربى‏، ولا ضير فى الاقتباس منه‏.‏

وقد استمرت أصوات التجديد المعاصرة فى إخلاصها للإيمان بحرية الرأى والتعبير‏، ‏وتركز على قراءة مكثفة لبعض رموز التجديد من المعاصرين‏:

‏1‏ـ الإمام محمد عبده

يقول الإمام محمد عبده فى كتابه "الإسلام بين العلم والمدنية":‏ إن الأصل الأول من أصول الإسلام‏، ‏هو النظر العقلى. والنظر عنده هو وسيلة الإيمان‏.‏

والأصل الثاني‏:‏ هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض‏.‏

أما الأصل الثالث فهو البعد عن التكفير‏:‏ فقد اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان‏،‏ ولا يجوز حمله على الكفر‏.‏

والأصل الرابع‏:‏ الاعتبار بسنن الله في الخلق‏:‏ وهو ألا يعول بعد الأنبياء فى الدعوة الى الحق على غير الدليل‏، وألا ينظر الى العجائب والغرائب وخوارق العادات‏.‏

والأصل الخامس‏:‏ هدم السلطة الدينية‏:‏ هدم الإسلام بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم.

لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه على أن الرسول عليه السلام كان مبلغًا ومذكرًا لا مهيمنًا.

لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله‏، ‏ بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم‏، كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها وأحوال العرب خاصة فى زمان البعثة وما كان الناس عليه زمن النبى‏.‏

وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي‏، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار‏.‏

فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين وله بل عليه أن يطالب المجيب بالدليل على ما يجيب به سواء كان السؤال فى أمر الاعتقاد أو فى حكم عمل من الأعمال‏.‏. فليس فى الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية.‏

 

‏2‏ـ الدكتور عبدالمتعال الصعيدي

أحد أهم المجددين الإسلاميين فيما يتعلق بقضية حرية الرأى‏، كتب كتابين مهمين ‏(‏حرية الفكر فى الإسلام‏، والحرية الدينية فى الإسلام‏)‏

حاول فى الأخير شرح السياق الذى وردت فيه آيات القتال فى القرآن:‏

يقول الصعيدى‏:‏ علينا أن نعيد النظر فى جميع الآيات الواردة فى القتال‏، ‏ لننظر هل القتال فيها لإكراه الناس على الإسلام، أو لأجل حماية الإسلام؟

فأول ما نزل فى القتال قوله تعالى فى الآيات "أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا"، ‏فهو إذن للمسلمين بقتال من قاتلهم وأخرجهم من ديارهم بغير حق إلا أن قالوا "ربنا الله"‏، ‏ولا شك أن هذا صريح فى أن قتالهم للمشركين لحماية دعوتهم منهم بعد أن قاتلوهم وحاولوا فتنتهم بالقتال عن دينهم‏، فقابلوهم قتالاً بقتال وليس فى هذا أدنى دلالة على أن قتال المسلمين لهم كان لإدخالهم فى دين الإسلام‏، ‏كما ذهب إليه جمهور الفقهاء‏.‏

وقد جاء فى هذه الآيات أنه ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا‏..‏ وهذا صريح فى أن قتال المسلمين لحماية بيوت العبادة أن يهدمها أولئك المشركون ويمنعوا ذكر الله فيها‏، ولم تفرق الآيات فى بيوت العبادة بين بيوت اليهود والنصارى والمسلمين‏، لأن المسلمين مطالبون بالدفاع عن كل من يدخل فى حكمهم على اختلاف أديانهم.‏

ثم نزل بعد هذا قوله "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" وقوله تعالى "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير" فأمر فى الآيتين بقتال المشركين حتى لا تكون منهم فتنة للمسلمين عن دينهم‏، وحتى يكون دينهم خالصًا لله غير مزعزع ولا مضطرب‏، ‏ لأن الدين لا يكون خالصًا له إلا إذا امتنعت الفتن عنه وقوى سلطانه‏، حتى لا يجرؤ أحد على أهله‏، فإن انتهوا عن الاعتداء علينا بالقتال وعن فتنتنا عن ديننا به انتهينا عنهم‏، لأن لا عدوان إلا على الظالمين الذين يعتدون علينا‏، ويحاولون فتنتنا عن ديننا‏، والله تعالى بصير بما يعملون فى الخفاء لكيد الإسلام من غير قتال‏، فيحبطه ولا يمكنهم من الكيد لدينه‏، "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"‏.‏

أهل الكتاب‏:‏

ويضيف الصعيدى أنه مما جاء فى آيات القتال أيضًا قوله تعالى "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" وكان الإذن بالقتال لهم قبلها خاصًا بمشركى مكة‏، لأنهم هم الذين كانوا يقاتلون المسلمين‏، ‏ فلما انضم اليهم فى القتال غيرهم من المشركين أمر المسلمون بقتالهم معهم‏، فيكون قتالهم لحماية دعوة الإسلام منهم أيضًا‏، ولا يكون لأجل إدخالهم كرهًا فى الإسلام‏.‏

وكذلك جاء فى القتال قوله تعالى "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" والأمر بالقتال فى هذه الآية خاص ببعض أهل الكتاب وهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر حق الإيمان‏، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الاعتداء على الداعين إليه‏،‏ ولا يدينون دين الحق الذى لا يرضى بموالاة المشركين على المسلمين‏، وهم يدعون إلى الإيمان والتوحيد‏، ويحاربون عبادة الأصنام كما يحاربها أهل الكتاب‏، فهؤلاء الناس من أهل الكتاب قد خرجوا على دينهم‏، كما قال تعالى‏ "ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرًا منهم فاسقون" يقصد نبيهم وما أنزل إليه من الدعوة إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام‏، ولقد وصل الحقد على الإسلام ببعضهم الى تفضيل الشرك على ما يدعو إليه من التوحيد‏، كما قال تعالى "ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً"‏.‏

ولا يعقل أن نؤمر بقتال أهل الكتاب جميعًا‏، مع أنه لم يؤذن لنا إلا فى قتال من يقاتلنا من المشركين‏، كما سبق فى آيات قتالهم‏، وكما جاء فى قوله تعالى "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم"،‏ ولا شك أن هل الكتاب أقرب إلينا من المشركين‏، ‏فيكون من لم يقاتلنا منهم أولى بالمعاملة بالبر‏‏.‏

ولا شك أن الإسلام يجرى فى هذا على أساس ما جاء به من تحريم قتال من لم يقاتله‏، ويزيد عليه فى رفع الحرج عنا فى بره وموالاته‏، ‏ لأنه دين سمح لا يضيق بغير أهله‏، ولا يبخل عليهم بشيء كما قال تعالى خطابًا لنبيه "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".